«موت صغير» أحدث كرامات القطب الأكبر
ناقد مصري
تنبثق رواية «موت صغير» للكاتب السعودى الشاب، المقيم فى كندا “محمد حسن علوان” مثل معجزة ينبوع عذب ينبع فى صحراء الروح، فتبدو كأنها أحدث كرامات القطب الأندلسى الأكبر محيى الدين بن عربى «1164- 1240م»، فقد منعت المملكة على طلابها دراسة الفلسفة وتاريخ الفكر، وحرمت الوهابية الرسمية عليهم ذكر التصوف وطرائقه، لكن العروق المذهبية للثقافة العربية الأصيلة تمتد من الأندلس إلى اليمن عبر لغة لا تعرف الحواجز، ومواهب تتحدى الفقر الروحى والمعرفى مهما كانت سطوته، بل تتجاوز هذه الحدود إلى الأفق الإنسانى الأرحب الذى تعبر عنه الآداب بإتقان فنى محكم وشعرية عالية.
رواية «موت صغير» التى تتخذ إحدى عبارات ابن عربى الشهيرة «الحب موت صغير» عنواناً لها، وتقع فى أحد عشر سفراً تشكل مائة مقطع تناهز ستمائة صفحة، منها عشرة مقاطع لتتبع مخطوطات ابن عربى الموازية لحياته، والمتجاوزة لها، وهى تمخر عباب القارات والأنواء والأعاصير التاريخية بالملكيات الخاصة والعامة حتى تصل بيروت عام 2012م فى رحلة عجيبة تشف عن حضورها الدائم بمجموعة من القصص البديع المستقل. ولو كان علوان قد شهد فى صباه بالمملكة حلقات الذكر والأناشيد التى تعمر أرض مصر والشام والعراق والمغرب العربى، وهى تتندى بأبيات ابن عربى وأقواله، وهى تجسم حلم الحلول وتؤصل دين الحب، وتشعل وجد الأشواق فى قلوب العوام قبل المثقفين لعرف أن كرامات قطبه العظيم تنبت فى جسد الحياة العربية ورقاً أخضر ومعرفة جوانية وثراء روحياً لا يعادى العقل ولا يجافى اليقين، وإن ترفع عن الطقوس والأشكال التى غرقت فيها الممارسات الدينية الظاهرية. لكن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو كيف نقرأ سفراً جميلاً وجليلاً مثل هذا يتصدى كاتب طموح فيه لتقديم سيرة فنية لأعمق وأغزر شخصية عرفها الفكر الإسلامى، ترك من الأعمال والأقوال ما شغفت به الأجيال من أهمها “الفتوحات المكية” التى تعد محيط الثقافة الصوفية، هل نحاسبه بمعايير السيرة والترجمة والتاريخ لنتحقق من صدق حركاته فندقق الأخبار ونبحث الوثائق؟ أم نترك المجال مفتوحاً للتخييل السردى الخلاق والخيال الإبداعى الملهم لنبحث عن رؤية المؤلف الكلية للشخصية وقدراته الجمالية والتقنية فى إعادة بناء أنساقها التاريخية والمعرفية باعتبارها نصاً سردياً متدافعاً متدفقاً يصنع عوالمه ويرسخ فى وجداننا أنقى وأبقى ما يبلور بؤرة الضوء المكثف التى تشف عنها؟ أحسب أن القراءة الثانية هى الجديرة بالأعمال الأدبية الخالدة وهى التى سنحاول تقديم لمحات منها بقدر ما يتسع له المجال.
ولابد أن أشير أولاً إلى تقنية «القطع المفاتيح» التى يضعها الكاتب على رأس كل مقطع فى الرواية اقتباساً من أقوال ابن عربى الشهيرة، فهى حل وسط بين أسلوبين اتبعهما كتاب روايات السير الذاتية من قبله، والتى تتناول شخصيات الذروة التاريخية والدينية منذ كتب روائيون كثر سيرة الرسول عليه السلام مثلاً، فالتزم توفيق الحكيم بالأحاديث النبوية فى حواراته كلها، وذوب هيكل وعبدالرحمن الشرقاوى الأحاديث النبوية فى صيغهما السردية، ونشر طه حسين ضوء النبوة وعطرها العابق فى «على هامش السيرة» و«الوعد الحق»، وها هو الشاب النابغة “محمد حسن علوان” يقدم أول سيرة بضمير المتكلم لأخصب الشخصيات الصوفية التى انهمرت أقوالها وأفعالها وأشعارها فى الوجدان العربى الإسلامى، فابتكر حيلة وضع الجمل المفاتيح من كلماته على رأس كل مقطع ليتضمخ كل فصل بعطره فى كل مراحل حياته ومواقفه، ابتداء من مقولته الجميلة: «كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها بالولادة» لاحظ حداثة استخدام الاغتراب مقترناً بالحياة ذاتها. ثم يستهل السفر الثانى بمعجز الكلمات «الناس نفوس الديار» ليبث الحياة فى الأمكنة، ثم افتتاح آخر يربط الفن بالعلم فى لغة باهرة «كل فن لا يفيد علما لا يعول عليه»، وتترى بعد ذلك هذه الصيغة الأشد شيوعاً فى نصوص حكمه «لا يعول عليه» مثل كل مكان لا يؤنث، لا يعول عليه حتى يأتى بمعجزة فلسفية حداثية إذ يقول «الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد» ولا يمكن أن نستقصى البقية حتى نصل إلى فقرة ختام الرواية فنجده يضع مفتاحاً لها «كل بقاء بعده فناء لا يعول عليه» فتكتمل دائرة هذه الرموز التى تعتبر قطرات من روح ابن عربى تشع فى العمل كله.
إشارات ورموز وشروح
تحفل الرواية بعمقها الثقافى وإشاراتها السيميولوجية، يحكى ابن عربى مثلا عن أبيه الذى كان يعمل فى بلاط الوالى ثم الخليفة بمرسية بالأندلس أنه “..إذا استعد للخروج فلبس معطف التونسى واحتزم بحزام من الخز ووضع فوقه جبة من الديباج اعتمر عمامة علمنا منه أنه يوم عادي يذهب فيه إلى عمله فى قصر الملك، أما إذا اعتمر قلنسوة أو اتشح بطيلسان فنعلم أنه ذاهب لشأن آخر غير شؤون البلاط يزور أحداً أو يقضى حاجة فى السوق. أما إذا لبس البرنس البربرى بلا حزام ولا طيلسان ولا قلنسوة فالأغلب أنه سيذهب إلى جامع مرسية ليلقى درساً أو يحدث حديثاً. لكل مقام لباس. الديباج لحضرة الملك والطيلسان للعامة والبرنس للمسجد، وكأن عمل أبى يتطلب أن يكون ثلاثة رجال فى رجل، غير آبه بما تفسده ثلاثة قلوب فى صدر واحد، كما تفعل هذه الأيام ثلاث دول فى جنوب الأندلس، المرابطون والموحدون والفرنجة..”. لاحظ أولاً خبرة الصبى العميقة بدلالة الألبسة ومقاماتها، ثم ملاحظته الصوفية الثاقبة عن جمع أبيه هكذا بين ثلاثة قلوب فى قلب واحد مما يتنافى مع وحدة الذات، ثم اتساع دائرة رؤيته لتشمل الوضع العسكرى والسياسى الأندلسى حينئذ والبلاد موزعة بين ثلاث دول هى المرابطون والموحدون والفرنجة، مما ينذر بالمصير المشؤوم الذى ستؤول إليه.
هكذا يتمدد الوصف من مظهر الشخص إلى جوهره، ثم إلى أمته كلها. وكان من الطبيعى أن يقدمه أبوه إلى الخليفة عندما حل بمرسية فإذا به يستبقيه فى معيته، لأنه تذكر ما سمعه عنه من ابن رشد، فيستدعيه يوما ليسأله عن شىء من البريد الذى يمسكه فى يده، فيقول له ابن عربى: إن الذين يشكون إليك ابن رشد لم يكونوا يفعلون ذلك فى عهد أبيك، فيعجب الخليفة ويسأله: وما أدراك أن البريد الذى فى يدى يتضمن شكاية ضد ابن رشد؟ فيرد عليه: إن الله يكشف لى. عندئذ يبادر الخليفة بسؤاله: «هل كشف لك ما يكون من أمر قشتالة» وهى الإمارة المسيحية المعادية للمسلمين والمتربصة بهم فيرد عليه: «إن الله يكشف لى ما يريد بدلا مما أريده، إنه كشف لا تنجيم ولا عرافة ولا كهانة، فأنا لا أسترق السمع ولا أخطف الخطفة، إنما أكون فى حالى ومنوالى فيكشف لى أمراً دون أن أسأله، وهذا شأن الأولياء وطريق المتصوفة، فيقول له الخليفة: أنا لا أفهم كل كلامك يا محيى الدين، هل الصوفى فيلسوف أم فقيه؟ فيرد عليه: لا هذا ولا ذاك يا أمير المؤمنين، ما الفرق بينهما؟ فيجيبه: الفلاسفة أصحاب فكر واستدلال، أما الفقهاء فأصحاب اتباع وامتثال.
والمتصوفة أصحاب ذوق وأحوال.. بهذه الكلمات المكثفة يوجز قصة الصراع الفكرى حينذاك بين الفقهاء والمتصوفة والفلاسفة وكيف شلت العقل العربى بانتصار الفقهاء، وهى قصة محورية قادت حياة ابن عربى وحددت مسيرته ومصيره، وحركت دينامية مقامه ورحيله وقربه ثم بعده من السلطة والناس، ولكن اللافت للنظر فيها ليس تلك الآراء المبثوثة فى الكتب فى حد ذاتها، وإنما فى خلق السياقات السردية التى تتولد فيها المواقف الحيوية التى تنبثق منها وتنتجها، مما يجعل القارئ أشد وعياً جمالياً بها.
ولعل من أقوى الروابط السردية التى اعتمد عليها المؤلف فى تحديد مسار حياة ابن عربى توظيفه لفكرة الوتد الصوفية وهى الدرجة الدنيا التى تتصاعد حتى تبلغ مرتبة القطب وتعيين أشخاص بذواتهم كانوا أوتاداً لابن عربى، ومعشوقته نظام الفارسية التى التقى بها وهما يتلقيان العلم عن عمتها الكبرى فى مكة، وتبادل معها الغزل والأحضان والقبلات خارج التكليف، ثم رفضت الزواج منه بعد أن كتب فيها ديوانه البديع «ترجمان الأشواق»، ويكتب شرحا لتأويل أبياته وتبرئة ساحتها. وعندما يذهب إلى القاهرة ويقدم إلى المحاكمة بسبب آرائه التى تخالف عقائد الفقهاء والعوام يدافع عن نفسه ببلاغة شديدة لكن ما ينقذه من السجن هو أحد الأولياء يخرج من قبره ويشفع له ويتعهد بأنه لن يخرج عن مقاصد الشرع قبل أن يسير فى الهواء ويودعه وينصحه بالخروج من مصر إلى الشام، وهناك فى دمشق تموج تيارات الحياة العنيفة به حتى ينتهى لكسب قوته إلى العمل أجيراً فى بستان، وتوافيه المنية الصغيرة ويدفن فى دمشق، وتنتهى الرواية بمثل ما بدأت به من الشجن العذب والشعرية الرفيعة والخصوبة الفكرية والروحية البالغة فى واحدة من روائع الأدب التى صدرت هذا العام وحصلت على جائزة البوكر العربية فى الرواية فكانت آخر كرامة للقطب العظيم.