رواية سقف الكفاية لمحمد حسن علوان
مرثيــة بامتـداد المسـافـة إلى كنـدا
شاعر وقاص سعودي - محرر ثقافي بجريدة الرياض السعودية
يستعصي على أمثالي من الانطباعيين التعاطي مع نص شعري على هذا النحو من الاختلاف، أعني رواية (سقف الكفاية) للقاص محمد حسن علوان فالاحراجات المتشجرة تلتف حولي أثناء تفاعلي مع هذا المنجز إلى حد فشلي في تعريف ما أقرأ وإقرار التسقيف النوعي لهذا الطرح الفني. يفتتح علوان روايته الرسالية بإثارة بانوراما شعرية تنتصب واجهة إعلانية تغري بالتواصل مع الكاتب ليس إلاّ. المناورة الشعرية في تضاعيف الدراما كانت قاصرة عن رسم حدود لها أو تحديد نقاط توقف أو تنظيم أو إرشاد فجاءت أشبه بتجارب قتالية اعتباطية ينقصها التروي والتنسيق الهادئ. علوان وهو الشاعر المكتنز بطاقات مهولة لم ينخرط في النسيج السردي انخراط الحكواتي على مسطبة المقهى أو الروائي الذي يبتدع الإنسان القادم ولعل علوان لم يسع إلى هذا فليس في مدارج سعيه أو تلافيف عقله حبكة قص، فهو يعمد إلى تجاوز النمطية في تعريف المرحلة الخاصة في القاموس النفسي لديه.الرواية في نشأتها الأولى كانت رسالة أغرت بأخرى فتدافعت الرسائل تأخذ برقاب بعض حتى التأم هذا العقد النضيد من البكائيات، لم يحسن علوان نظمها فرتبها في مقاطع شعرية أخّاذة يتعذر على القارئ الدارج التواصل معها إلاّ في مربع الدهشة والإعجاب.لكن ماذا قدم علوان الشاعر لعلوان القاص؟ في ظني أن الشاعرية الطافرة التي سأفيض في تناولها أشبعت غريزة علوان الاستنساخ الأصم لهيكلية رواية (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي من حيث المراوحة بين المشهد واللوحة والموسيقى التصويرية التي تسبق الحدث وتتلوه فضلاً عن شطر الفضاء الروائي إلى عالمين حتم على أحدهما ان يكون قصياً ثرياً بموجودات قابلة للتشريح ومعجم يمنح المشاهد بعدها التكاملي ومن زاوية أخرى يخشى ان يفقد الطابع النزاري الذي هو نواة ومدار المضمون الروائي فأثقله كثيراً هذا العبء من الموروثات النفسية فكان ضحية تلاقح أحلامي نزاري أنجب علوان إنجاباً خديجاً سيسعى وحيداً لتحقيق نموه وتكامله دون تدخل أبوي. لكن ما نوع الأبوية هنا؟ (ناصر) بتوتره المدرسي العاصف وبعد النكسة العاطفية حول مسرح الرواية إلى حلبة انتقام فجاء أسطره شفرات حادة تجرح مجتمعه (شمشون غير جبار) ليدفع إلى الالتفات إلى.. ربما ليقول أنا موجود أو أنا مجروح، وهذا دأب بعض أسلافه كأحلام؛ لكن غاب عنه ان المجتمع لن يعيره ولا سواه أي التفاتة إذ إنه المجتمع استحال جسده إلى جرح يكاد يتجاوز مساحة جسده فتكسرت النصال على نصاله لاسيما أن الجارح (ناصر) يحتمل على ظهره جرحاً أثقل من جسمه لتتدخل الشعرية هنا فتنزف حشداً مركزاً يرهص لانفجار درامي وحدث يليق بهذا الحشد، إلاّ ان الحدث يغيب بسبب غياب القارئ ساعة حول علوان الرواية إلى رسالة ذات نصوص شعرية أقحمت إقحاماً استثنائياً أمعن في إلحاح فصول الرواية على الطابع الرسالي (مرسل مرسل إليه) فغاب القارئ كنتيجة حتمية في الحين التي يفترض فيه أن يشارك القارئ بوصفه كاتباً آخر للنص. ولا أعني ان الرواية من المحورية والفعل الحكائي لكنه أجلها لمغازلة الانتباه وحشر المتلقي في غرفة الانتظار على أن يقدم له عبر مقاطعة النثر شعرية كل المشروبات السكرية الطازجة ليصبره على الدخول إلى حدث أتى متدرجاً وشخصيات مقطرة امتثالاً للسلم السردي في (ذاكرة الجسد) فحقق على علوان كل النقودات التي منيت بها مستفانمي حول أزمة الأحداث.. يقول الناقد إبراهيم محمود عن ذاكرة الجسد: (لا حدث هنا بقدر ما توجد إحداثية، أي حركات ونزوات مراهقة).. أي استقلالية يفتعلها علوان وهو الذي حشر نفسه طوعاً في جيل (ذاكرة الجسد) حين يقلب الجسد إلى فضاء للمخيلة.. لكن مرة أخرى هل ثمة جديد خصوصاً ان هذا اللون من الغيرية يصنف في خانة البائت كمن يخرق اللون الأحمر فينال العقوبة دون ان يسترعي انتباه أحد. إذاً النزارية ظاهرة لن تكرر نفسها وأحلام تستهلك ما بقي من ثمالتها والجسد سيتحول عمّا قريب إلى جيفة ليس للصقور طمع فيها.. ومفردات (يا مرآة).. (يا سيدتي) استيراد مرحني لا واع من قاموس الآخر ينزعج من القارئ المثقف. أعود إلى سحرية علوان المزدحمة بوظائف الإبداع وضرورة إنجاز رباعيته (الشعر لغة الشعر قوالب الدراما فلسفة البكاء) الذي نجح رغم حداثة تجبربته في إنتاجها والتوفيق بينها مع احتجاجي على القولبة الدرامية فهي مفرقة في ثانويتها تنهض لمصالحة القارئ وحسب خلاف البسط الفلسفي فهو خامة شعرية تغذي وتتغذى منه ولا ينفك عنه علوان ليدلل من جديد على ان الهامش الفضفاض جدير بفلسفة ممتدة تخدر الحدث والمتلقي على حد سواء. وسؤال آخر.. هل الفلسفة ابنة شرعية للحكمة وهي جزء من تعريفها اللغوي وهل علوان استحال كائناً فلسفياً وهي نكسته العاطفية جرحت عبقريته لتنزف الفلسفة دماً حكيماً وطائشاً في الآن ذاته وما أطر الصورة الشعرية ذات الخامة الفلسفية.إن ما يقدمه علوان في خطابه أداء شعرية مقهورة قولبها بمهارة لغوية فائقة صيغت على نحو معادلة محكمة بلغت لدى المتلقي العجول مبلغ الفلسفة أو تأملات عين دامعة لدى المتلقي الفاحص في الوقت الذي لا يُرى فيه حقل دلالي جدير بهذا الانفعال العملاق فالمضمون ضامر تكراري أكثر منه تعاقب الليل والنهار وأهل بأن يعالج في قصيدة شعر شعبي إلاّ أن علوان يتأبى على التصنيف الآنف، فهروبه إلى كندا والتقاؤه ب(ديار) العراقي و(مس تنغل) والعرض الفائض في الشأن العراقي والعربي إيماءة تشي لقرائه بهذا التأبي. الانفعال السابق مضمر تبرز له تجليات بلغت درجة الغليان يقف علوان عاجزا حيال مهاراتها، ترد علوان الأديب إلى علوان التلميذ المشاغب خصوصاً أنه حديث عهد بمدرسة يقول (ناصر) عن غريمه (سالم): (هل يُعقل ان تتزوج أمير البحر من ضفدع الضفة). ويقول: (أتصور أن ديار كان ليشرب خنزيرك سالم هذا قطرةً قطرة) وصفحة 313 على وجه تمامها صورة أكثر نصاعة على هذا ليمتد بناها إلى كشف جانباً خفياً ذا علاقة مكينة بشخص عاشق مشاغب لازال يلتمس رغم خذلانه أناقة التراجع، فالرواية رسالة أخيرة لمعشوقته ذات إغراء مبطن للعودة إلى فردوسه بعد ان غادرتها فكان الخطاب الحكائي بغنائيته السردية محتفلاً بمباهج جنته الجديدة وأنه لا زال محتفظاً بحيويته ووسامة قلمه المنبعث من رماده كأشد ما يكون نضارة ورواء فألبسه اللغة الفاتنة ذات الشبكة المموسقة مما دفعه إلى تبني مفردات غير عربية كانت أشبه بلفت النظر إليه مجدداً بعد ان رجل شعر الكلام على نمط غربي ولعل هذا من دوافع اختيار البيئة غير العربية ويحتد أكثر أكثر حيث تبرز ثقافة ناصر الموسوعية في نقاشه المدير عن الشأن السياسي واقتحام ميدان القضايا الكبرى نقاشاً طغى على كثير من جوانبه المعجم الصحفي أو الخبر الإعلامي الغاضب مع وجود شعرية في بعضها. هذه الوسائط الجمالية توسل بها علوان ليقول شيئاً واحداً.. (أضاعوني وأي فتى أضاعوا) وأواصل توجيه العتاب الرقيق للصديق الفنان علوان حول المراوحة غير المنظمة بين مسرح الذاكرة ذي النسق الوجداني والمشهد الكندي ذي الطابع الرصدي والانتقاء المتوقع للمحاور العراقي الذي فصل تفصيلاً متقناً ليكون القطب الانفجاري المقابل في دائرة حوار ستكف عن دورانها عاجلاً لو لم يكن الآخر عراقياً. انتهى إلى إضاءة هامش قصي عصي على الرصد يتمثل في المشروع النووي لدى الشاعر النووي علوان فهو تجربة نووية لا روائية تحوي مادة إبداعية ذات إشعاع كوني لا تستوعبها النص الشعري التي بدت كبؤرة مجهر بالغ الضيق والتسييج فكان الفضاء الرحب (الرواية) هو ظرف المكان اللائق لإجراء هذه التجربة لاسيما بعد أن برز له خصم تفنن علوان وأمعن في إعلامه النفسي في تضخيم صورته العدائية ليخادع نفسه ويسوغ لها وجوب توجيه ضربة حاسمة له وإن كنت أزعم أنه بريء مسالم لم يعرف حتى الساعة أنه طرف خصومه.بقي أن نلم ببعض هنات التجربة النووية ومنها أن الحدثية كانت أكبر من عمد الكاتب لا موهبته وظني أن علوان خرج من روايته مبللاً مترهلاً بعد أن دشن مشروعاً طولياً لدمعة بامتداد المسافة إلى كندا فبدا جلياً ثقافة الصخب والازدحام والترف التصويري واندفاع موجودات المخيلة حتى حالت بعض التفعيلات الجمالية أشبه بالنفايات النووية، يقول (ناصر) بعد ان شغلته أوراقه عن الصلاة: (هل عندي حكمة الأنبياء حتى أمزق أوراق روايتي كما أهلك سليمان جياده عندما شغلته عن (الصلاة) .الصورة هنا مصنوعة بمادة غير أولية دخلت الذائقة دون إذن. هذا الإسراف يدفعنا إلى الجزم بأننا نستطيع اجتياز عشرات الصفحات دون ان يخل هذا بمتابعتنا للأحداث، بل بوسعنا اختصار الرواية ربع حجمها مع توصية علوان بتوزيع صوره الشعرية الفارهة على القادم من نصوصه الشعرية. قد أكون أسهبت في نقد العزيز علوان لكن ما أطمئن إليه ان علوان ظاهرة كتابية فريدة نادرة وحقيق بالمراهنة ولا أحسب أحداً من مجايليه وأترابه يحتكم على شيء من أسرار برنامجه النووي القادم.