ما قضمته القنادس
كاتبة كويتية
بعض الروايات عندما تنتهي منها و تريد أن تصفها لا يمكنك القول سوى أنها ليست أروع رواية قرأتها إلا أنها حركت في داخلك شيئا ما! وألقت عليك بظلالها من الكآبة الخفيفة لبعض الوقت، رواية لا تدهشك كثيرا ولا تجعلك مترقبا ولا حتى متحمسا للوصول للصفحة الأخيرة، لكنها في الوقت نفسه تشبه نزهة على الأقدام في طريق بلله المطر للتو لشخص لا رغبة لديه في الجلوس في مكان مغلق. رواية ليس بها ما تتحدث عنه لشخص لم يقرأها لكنها تترك أثرا يمتد طويلا.
رواية (القندس) لمحمد حسن علوان، إحدى روايات القائمة القصيرة للبوكر هذا العام، احتفظت بنمط كاتبها السردي الذي يعتمد دائما على حدث هامشي أو ميت وبطل مهزوم من الداخل، و بوح طويل بلغة شاعرية فذة تلتقط التفاصيل وتحتفي بها.
«قررت أن أحدث ثقبا في جدار الزمن و أهرب»* البطل غالب في الرواية بدت ذاكرته متخمة باللقطات الخائبة،قرر- دون مبرر قوي – إعادة تدوير ماضيه، ينزلق في كل فصل في الشفقة على ذاته، يصطاد من النهر الجاري لحظات صفو تتحول لنزيف في شريان الزمن.
«كنت أعرف أن البكاء في حقائب الراحلين أهم من القمصان و الأحذية»*.يجلس الأربعيني الأعزب يصطاد ذكرياته و يراقب قنادس النهر في بورتلاند، عاقدا المقارنات بينها و بين أفراد عائلته في الرياض، يتلاشى في الأمس تاركا المستقبل معلقا كفانوس مكسور و الحاضر بلا ملامح آمنة.
«لم يعد ثمة مكان أجلس فيه براحة سوى هذا البساط الملوث بالأقدار والحكايات»*. حكايات عن العائلة المفككة والحبيبة الماكرة والمدينة الجافة، حكايات صغيرة متشعبة لا رابط بينها، مكونة ممرات من الوصف الدقيق لأناس علاقتهم هشة بالبطل وغير قابلة للنمو.
«إذا أردنا أن نخنق حبا قديما، فعلينا أن نسخر منه باستمرار»*. البطل غالب لا يحاول خنق ذكرياته هو فقط يعيش حالة من اشتهاء الوقوف على الأطلال و التمركز في دائرة الضحية، الذي لم يحظَ باهتمام الوالدين و لا مودة الأخوة و لا تهافت الحبيبة، كأن العالم لم يكترث به يوما.و من بين كل الشخوص لم يعتن أحد جيدا بمشاعر الطفل والمراهق الذي لم يحظَ بالحنان والاهتمام الكافي.كبر في مدينة كانت مثل أبويه محتقنة وبعيدة عنه وغير قادرة على التغلغل لروحه المقفرة. عقد الطفولة تركت ندوبا في روح تذوي كما ترك الحادث المروري ندوبا على وجه لم يوصف بالوسامة.
العبارات جاءت طويلة على امتداد العمل، اللغة عنصر علوان الأقوى اعتمدت على الكثير من الصور الجميلة الخلاقة، سير العمل ما بين ماضي وحاضر جاء بنهاية غير متوقعة بدت مقحمة وبحاجة لرواية أخرى، الأدوار وزعت في بداية العمل على الجميع بالتساوي، إلا أن الأب و غادة حظيا بنصيب الأسد في النصف الثاني من العمل، تاركين بقية الشخوص من دون أن يتعرف عليهم القارئ جيدا.
العنوان لم يرق لي كقارئة،الغلاف بدا مغايرا، إيقاع العمل البطيء ساعدني على الدخول في أجواء البطل و اجترار خيباته ومرارة ذاته تدريجيا.الجزء الخاص بالقرية وحكاية الجد في أبها ذكرني برواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان.
يقول غالب «نحن و الأبطال نموت»* في إشارة لحالة العدمية التي يمر بها، يرضى بأن يكون مخلوقا لامرئيا في مدينة تخنقه تدريجيا بجفافها، وتقبل بنصف امرأة تناوره بمزاجية، يجلس على مقعد الكسير مربتا كتف نفسه، مجبرا القارئ على التماهي والذهاب معه للضفة الأخرى مترنحا من رهافة البوح وشفافية السرد، دون أن يترك للقنادس ما تقضمه من بقايا الكلام المخبأ جيدا!