صوفيا، رواية الكاتب السعودي: محمد حسن علوان
مأساة الحياة حين تصارع الموت
روائي ومثقف سوري
معتز في الثلاثين من عمره، لكنه يشعر كما لو أنه ملّ من الحياة، حياته منذ البداية التجديد، وعندما تتكرر الصور، يحاول أن يعيد تركيب أموره من جديد، يرغب دائماً بحركة في الحياة ليست مألوفة، وبالمصادفة، وعبر الانترنت، ثم الهاتف، تدخل حياته امرأة على مشارف الموت اسمها ”صوفيا“. هو من مدينة الرياض السعودية وهي من بيروت اللبنانية، تزوّج امرأة وطلّقها بعد ثلاث سنوات ولم تنجب له. وكان يبحث باستمرار عن حياة غير مألوفة، فإذا به يقع بين يدي امرأة ينهشها السرطان، ظن في البداية أنها تكذب عليه لتثير شفقته، لكن من صوتها على الهاتف أدرك أنها مريضة حقاً، وانها ترغب، بل رغبتها الأخيرة التعرف عليه، وكان، من باب الشفقة أولاً، أن رحل إليها، وتعرف إليها شخصياً، ليجد نفسه أمام امرأة في التاسعة والعشرين من عمرها، جميلة على الرغم من أن السرطان ابتلع نصف بهجتها ونصف جمالها، واكتشف أنها امرأة استثنائية، مثقفة بالفطرة، تناقشه في كل الأمور بوعي رائق على الرغم من الألم والعذاب الذي تعيشه، فيظل الى جانبها شهرين وبضعة أيام، لم يملّ منها وهو الملول أصلاً، لأنه في كل يوم يشعر أنه يعيش مع امرأة مختلفة، على الرغم من العذاب والآلام، وهي التي لم تعرف رجلاً قبل معتز، وما زالت عذراء، تجد نفسها عاشقة حتى الطفاق والموت يترقبها على الأريكة يطقطق أصابعه ـ حسب وصف الكاتب ـ ويتركها تتألم وتتأوه شهوة في الوقت نفسه ـ يا لها من حياة لا يفصلها إلا خيط رقيق جداً عن الموت.
بلغة شعرية، وبوصف من داخل النص، يدل على سعة خيال مؤلفها الكاتب العربي السعودي محمد حسن علوان ولغته المتينة يقدم لنا مأساة تشبه الجرح المفتوح، حيث كل شيء يضمحل وتبهت ألوانه أمام امرأة تريد الحياة ويريدها الموت ويتمسك بتلابيبها من دون أن تفلت منه. صوفيا تموت وتحب في الوقت ذاته، تختلف ثقافتها عن ثقافة معتز المسلم وهي ترى الحياة من منظورها بصورة مغايرة لهذا الرجل الذي هبط عليها من السماء فيما هي بأشد الحاجة إليه فـ”لم تكن ملاكاً.. ولكنها تموت في الطريقة نفسها وعندما تحتاجه ويتردد تقول له: أحتاج إلى جسمك شعرة شعرة. لا أبالي بالجيران ولا بأهل البناية كلهم. لا يبالي الموتى بثرثرة الأحباء يا حبيبي، لا تبال بهم أنت أيضاً، نحن المسيحيين لا نقذف النساء بالكلام، كما لا نقذفهم بالحجارة، ثم إني سأموت، وأنت سترحل، ولتغرق الدنيا بعدنا في البحر“.
وفيما يرى معتز أنه أمام امرأة هشة وأن قرار موتها علّق فوق سريرها، لكنها ترى فيه الرجل المنقذ. فأمام الأدوية المهدئة للألم سرعان ما تتناول الأدوية المنشطة لتصحو ساعات بين ذراعيه تذوق طعم الحب العسلي فيما مُرّ الأدوية ما زال على رأس لسانها. ويا لها من حياة. وفي الحوارات المبتسرة خارج لغة الحب يظل الكلام عبثاً. يتبادلان العبارات غير الموجهة، كما يتقاذف طفلان الوسائد. تقول له بلهجتها البيروتية: شوف.. ما فينا نمثل على الله! بنكون زي ما نكون، هو خلقنا، وهو بيعرفنا أكثر منا، ما فينا نقول إنا بنحبه ونحنا ما بنحبه. ما فينا نقول نحنا مؤمنين ونحنا مَنّا مؤمنين. بنكون زي ما نكون وهو بيتصرف.
”كان وجهي يقطب مثل فلكي عجوز وأنا أراقب كلامها، وعلى الغلاف الداخلي لوجهي كانت ابتسامة كبيرة تملأ المكان ولا تراها صوفيا. ولا يمكنني طرحها على طاولة النقاش، لأنها لا تعني شيئاً مفهوماً أبداً“ مثقفة هي صوفيا إذاً، وتستطيع أن تفلسف بعض الأشياء. هذه فتاة على مقاس الحب وذوقه (…) حتى جسدها كان مثقفاً، وعلى الرغم من أنها زعمت طويلاً أنها لم تنم مع رجل قبلي، وتبرهن على ذلك بعذريتها ولم تكن العذرية تثبت لي أي شيء، فمنذ سؤدة الليل الأول، حوت ذراعاي جسدها الذي أنحله المرض، واعتليت صهوة الرغبات الأصيلة، وارتعشت الفتاة بين يدي طويلاً. وتألمت أكثر، ورأيت كيف تصارع في عينيها فارس الموت وفارس الحياة و”تلوّن وجهها مثل فانوس مجنون، والتصقت بي مثل سمكة جائعة. ولم تعد صوفيا عذراء. لم تعد عذراء أبداً“.
لذا أرادت ألا تفلت منها الحياة حتى اللحظة الأخيرة، هي التي عاشت مأساة حرب بيروت وقُتلت أسرتها في قذيفة دمّرت البيت في المنطقة الشرقية، وعاشت بعد ذلك في هذه الشقة الصغيرة ليدهمها هذا المرض الخبيث فيأكل شبابها لقمة بعد لقمة. فصار من حقها أن تسرع لالتقاط الحياة ولو النزير منها، ولو بضع لحظات بين ذراعي رجل تحبه، فـ: بقايا التوجه الأنثوي المتراكم فوق عذرية طويلة، نزفتها صوفيا كلها على جسدي (…) وهي تدرك لأول مرة معنى أن يصبح نصف جسمها الأسفل غير مقيّد بقوانين نصفه الأعلى. ”إن هذا جعلها تختبر نشوة لم يتنبأ بها سريرها الواسع الذي تلمس أطرافه سيقان النباتات المتسلقة. فـ”ثمة شيفرة جديدة للمشي الآن من دون أسرار“.
محتوم
ويرى معتز في صوفيا، كما نراه في كل إنسان مريض مقدم على موت محتوم: دائماً الله طرف في مشاكلها، محيرة هي أقداره بالنسبة إليها. على الرغم من أنها عندما تتعلق بالوطن تبدو مألوفة. وهي التي تعوّدت أن عدد الناس غداً أقل منهم اليوم. دائماً، لأن النظريات هنا نظريات الحرب، وهي عاشت ثلاثة أرباع حياتها في الحرب تماماً، اما أنها امتلأت بالوجع حتى فاضت، أو شُحنت بالحكايات من حولها حتى ظنت أنها وقعت لها شخصياً“. ويقول معتز: ”وأمام التساؤلات الموجهة نحو القدرة الإلهية كنت أنسحب دائماً. لقد أدركت منذ طفولتي أن الله صامت، صامت جداً. وكنت أمام خيار أن أتخيّل أن له طريقة مختلفة في الكلام. وهذا الخيار الأخير كان محرضاً جداً أن تصبح كل الأحداث التي تحدث أمامي كلمات إلهية، أنا أشعر بها، أسمعها جيداً لأنها حدثت. الله لا يصمت أبداً، ولكنه لا يتكلم ولا يجيب بالطريقة المعتادة. إن الله عظيم إذاً، لأنه غير رتيب، هذا يتفق معي جداً، وأنا أحبه لذلك“.
لكن صوفيا تجمح بأسئلتها نحوه من دون تراجع، كأن مرضها يجعلها تشعر بأنه صار الطرف الذي ينبغي له ألا يتمادى. ومن حقها أن تعاتبه كل يوم، وكأن معتز وقف حكماً يراقب أقداره عليها، ويسمع عتابها له. ثم يحاول أن يجد حلولاً ترضي الطرفين. وأطلق هذه الحلول بصيغة محايدة لاختلاف ديانتهما ولم يكن يفلح دائماً.
تتحول الأيام الأخيرة بين معتز وصوفيا إلى صراع مع البقاء، هي تريد الحياة وتريد معتز، وهو بدأ يتململ من هذا الواقع الذي أسره، حتى انه ذات مرة ادعى انه مضطر للسفر لأمور ضرورية سيغيب عنها يومين، ولكنه ينتقل إلى فندق قريب من منزلها، ويلتقي بأصدقاء قادمين من السعودية في عطلة، فينغمس معهم في السهر والعربدة والصعود إلى الجبل وينسى تماماً صوفيا، لكن عندما يتذكرها يخشى فجأة أن يدخل حياتها رجل آخر ـ يا لأنانيته ـ تحركه الغيرة بالتسلل إلى شقتها ـ ومعه مفتاحها دائماً ـ متوقعاً أن يجد رجلاً بين أحضانها ما يبرر له هجرها، لكنه لا يجد أحداً، يجدها نائمة، فيتسلل وينام إلى جانبها ويحتضن يدها، لا تستيقظ بسبب الأدوية المنومة، ولكنها عندما تصحو صباحاً، لا تسأله عن الإخلال بوعده انه سيغيب يومين فقط، وهو في الواقع غاب عنها تسعة أيام، بل تفرح به فرحاً كبيراً.. المهم انه عاد.
تسأله: كيف تشعر بي أنا.. المرأة نفسها؟
ـ وماذا يتغير.
تصمت. وفي فمها ابتسامة غامضة، تريد أن تتأكد من أنها لم تكن سباقاً وانتهى. أو حلوى واستهلكت. لم يكن عندي هذا الشعور فعلاً برغم أننا كشرقيين نعتز بالأشياء المغلقة: بيوتنا مغلقة، ثقافتنا مغلقة، وحتى النساء يكن أجمل وهنا مغلقات بالعذرية.
وصوفيا تختلف عندما تقول: ”بنكون زي ما بنكون“ ولا شيء أكثر جلاء من أيامها الغانية هذه، فكرت كيف أخلت مسؤوليتها أمام إلهها بعبارة واحدة ثم نامت فوقي! كأنها تخاطبه بلغتي: أنت الذي صنعت هذا الطوق الممل يا الله، وأنت الذي تركته ينكسر. وأنت الذي أردت لها أن تموت، وجلبتني إليها بأقدار أخرى. أنت الذي صنعت الموقف. وأضجعت الجسدين متجاورين في الهزيع الأخير من بيروت. أنت خلقتني وخلقت صوفيا.
الشفقة
وتصبح الشفقة أكثر من الحب، وأكثر من أي عاطفة أخرى، بل تصبح تضحية بكل ما تعني هذه الكلمة: ”في الأيام التي قضيتها معها فتحت صوفيا مشاعري واستأثرت برحمتي كلها. لا أتذكر أنني أشفقت على كائن مثلها. ولا أودعت في قرارة صدري منذ ولدت أمنيات بقدر ما تمنيت لها يد مسيح تبرئ جسدها من كل ما يؤذيها بمسحة طيبة؟ كنت أحلم بأن عندي لؤلؤة أصب منها في جسد صوفيا دماً جديداً. بدلاً من الذي امتلأ بالأوجاع. وثقلت عليه رحلته في أورادها.
وتستمر المأساة على نحو تصاعدي. موصوفة بتلك اللغة المذهلة (كم هي اللغة العربية رائعة) ففي الوقت الذي سمح معتز لنفسه بالخروج ولو قليلاً يرى بيروت مختلفة كأن ما كان يراه عند صوفيا انعكس حتى على الأشياء: ”وقفت أتأمل صخرة الروشة، وهي منحنية على البحر. وكأنها مقبض حقيبة يحمل الله بها الأرض إذا سافر. وهذا يجعلها أكثر نفعاً لو أن الله يسافر. ولكن يبدو أن السماوات المطويات بيمينه لا تحوجه إلى سفر ما، والى أين (…) بدت صخرة الروشة أثناء الغروب وكأنها شيخ سجد منذ ألف سنة ونسي أن يعتدل. ثابتة. لولا أن هذه التضاريس المعلقة في رقبة التاريخ بريئة من جريمة الثبات. صخرة الروشة ليست مرمية في صحراء مهملة حتى يكون ثباتها قبيحاً. إنها واقفة من أجل أن يتحرك ما حولها، وتبدو حركته واضحة“.
وبدا جسد صوفيا يذوي ويذوب كالشمعة. وبدأت تفقد الإحساس في الوجود، وجاءت ممرضة لتبقى إلى جانبها حتى الرحيل، وكان معتز يرى موتها وهو في ذروة الألم، وهو إزاء ذلك يشعر بالندم يخبط على صدره: ما الذي جاء بي إلى بيروت لأداوي رغبة امرأة ميتة! ولماذا أمارس هذه المداواة بما يشبه الذنب المكتوم، وهو يترنح في داخلي من فرط التجاهل الذي ارميه به. ويضرب رأسه في جدران صدري. ولا يكاد يصلني أي صدى، وهكذا يرى معتز انه أصبح جزءاً من عرض صوفيا: أنا خائف من اتخاذ قرار متعجرف أثناء ممارسة هذا الدور الحرج. علي أن أقاوم ما لم أقاومه منذ طفولتي شخصيتي نفسها، من أجل صوفيا. وربما كان ذلك علاجاً لي أنا أيضاً، من حيث لا أعلم.
وفي اللحظات الأخيرة من حياة صوفيا يدرك معتز انه يفقد المرأة التي، وفي لحظات الوداع، ينحني ليقبل شفتيها ”وبمجرد لمسهما كان علي أن أتشبث بالشفتين قليلاً لأصنع القبلة، وأذكر أن شفتيها كانتا منهكتين جداً، حتى أنهما انسحبتا مع فمي. ولم تستطع صوفيا أن تعيد انطباق شفتيها إلى الوضع المعتاد. وظلت شفتاها مبعثرتين. صوفيا عاجزة حتى عن أداء دورها في القبلة كما ينبغي، تركتني افعلها أنا. بينما شخصت بعينيها في جبيني وكأنها ظنت أني ملاك الموت“.
هكذا تنتهي الرواية بموت صوفيا وبترك حسرة موتها في أعماق معتز الذي بدا له في الواقع انه بموتها اكتشف حبه لها.. ولكن هيهات.
وإذا كان ثمة ملاحظات حول هذه الرواية الجميلة – الحزينة في آن، وهي محبوكة بلغة متينة يحسد كاتبها عليها. هي المقدمة أولاً عن الملائكة وحياتها وموتها، ودون أي رابط لها مع الرواية. ولا أدري لماذا حشرها الكاتب في المدخل. مما أفسد على القارئ الدخول إلى الرواية مباشرة، ولولاها لوجد القارئ نفسه في قلب الحدث، هذا عدا عن إقحامات في الفلسفة والموت والمناقشات التي لا ضرورة لها في هذا الجو المأسوي، لكُنا أمام رواية جميلة، بل عظيمة، استطاع الكاتب ان يلتقط ببراعة حجم هذا المرض الخبيث وتداعياته، لقد قرأت أكثر من رواية عالجت هذا المرض، ورأيت أفلاماً سينمائية أيضاً في هذا المجال، لكنني في رواية صوفيا ”رأيت هذا المرض بأبشع صوره حتى كان الكاتب يقنعنا أنها رواية واقعية مئة بالمئة، بل حقاً رواية واقعية، وهذه هي وظيفة الأدب، بالأساس، أن نقرأ ما نلمسه في الحياة لا أن نسمع به وحسب.