ذاكرة البياض: قراءة في رواية سقف الكفاية
ناقد و روائي أردني - كليةالآداب، جامعة الملك سعود بالرياض
”كانت ذاكرتي يوم عرفتك ورقة
بيضاء نقية، لم تكتب فيها امرأة قبلك،
فجئت أنت بحبك الخرافي المثير لتطبعي
كلَّ تفاصيل العلاقة في وجه الورقة،
فتظهر واضحة جلية في بياضها، من
أجل هذا أتذكر كل الأشياء الدقيقة“.
الرواية، ص315 – 316
تطرح رواية ”سقف الكفاية“ لمحمد حسن علوان إشكاليات كثيرة في ضوء ما يمكن أن نسميه اتفاقا مع كاتبها، وهو يصف ذاكرة ”ناصر“ بطل روايته ذاكرة البياض في لحظة بداية الرواية/أو بداية الحب، ثم كيف تحولت هذه الذاكرة بفعل العلاقة ب”مها“ وبالكتابة معاً، إلى ذاكرة سوداء دامية معذبة، تنثر آلاماً شتى، تعجز فيها الكتابة عن التعبير؛ لأنها من وجهة نظر البطل – أضيق بكثير من تجربة الحب التي يعيشها مع ”مها“.
وهذه التجربة، أيضاً، أكبر من آراء الناس الذين ينكرون عليه حبه في سياق وصفه لحاله: ”أنا مريض يا مها، لست رجلاً سوياً حتماً، لا أحد يحب مثلي إلا المرض، سينكرون عليّ كل حرف، وكل ضعف، وكل حماقة، سيقيسون الحكاية بميزان الأسوياء، فيجدون أني مجحف في حق نفسي، ولو شئت لعدلت ميزانهم، حتى يبدو عادلا عندما تنام في إحدى كفيه امرأة مثلك، وفي الأخرى.. أحزان رجل مثلي!“ ص180، لذلك وصف هذه التجربة مرضاً سرطانياً حل به.
من العلاقة السابقة شبه الأسطورية تتشكل جوهرية الرواية، وكأنها تتشكل في أحضان روايات جبرا إبراهيم جبرا، خاصة رواية ”السفينة“ التي بطلتها أيضاً ”مها“ سواء أقرأ علوان روايات جبرا أم لم يقرأها.
تبدو أبرز الإشكاليات المطروحة عند مقاربة هذه الرواية في ارتفاع رصيد جودتها الفنية السردية الشعرية، مقابل صغر سن كاتبها الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وهذه ليست مشكلة كبيرة في حد ذاتها، وإنما المشكلة تكمن في البيئة الثقافية التي تبدو للعيان بيئة واعية مثقفة، لكنها قد تبدو أحياناً بيئة مترهلة بطريقة أو بأخرى، تؤمن بأصنام الإبداع، ومن الصعب أن تقبل بتشكل كاتب جديد خارج عن سقفها، وشروطها..
من جهتي، أعتقد جازما أن علوان شاب قادر على أن يكتب رواية، لأنني منذ ثلاث سنوات حكمت مسابقة شعرية في جامعة الملك سعود، وقد توقفت كثيرا عند قصيدته التي قدمها في تلك المسابقة، متشككا – في ظل جودتها – من امكانية أن تكون لطالب في العشرين من عمره. كانت قصيدة جيدة، إلى حد أنني عرضتها على بعض الزملاء من الشعراء والنقاد مبديا لهم تخوفي وتشككي من امكانية أن تكون ولادة غير شرعية.. بعد ذلك تيقنت أيضا من قدرة علوان؛ وذلك لما قرأ قصيدته في الأمسية الشعرية التي عقدت لإعلان أسماء الفائزين، فكانت قراءته تدل على أن في داخله شاعرا واضحا..
يمكن وصف روايته هذه بأنها قصيدة اضطجعت فوق أربع مائة صفحة. وأنها قصيدة تداعٍ في حبكة سردية متنامية، تكشف عن داخل شاعر/ سارد مأزوم بعلاقته ”البيضاء“ مع ”مها“ الجميلة التي بلغت «سقف الأنوثة، وبوصفها أيضا المجربة التي تعرف كيف تجعل عشاقها يعيشون شموخ ذل علاقتهم غير المتوازنة بها؛ كأنها ”هيلين“؛ ”تتحول إلى أسطورة.. عندما تغيب، ومعجزة.. عندما تنزل“. ص176. وسمتها الأساسية الأنوثة، لا غير؛ أنوثة مؤثرة: ”علقت سلمان لسنوات على سلك هاتف فقط، وركعت أستاذاً جامعياً على ركبتيه ذليلاً يطلب الغفران، وقطعت بحسن آلاف الأميال“ ص197.
والإشكالية الأخرى في هذه الرواية أنها جريئة في طرح أفكار ”المراهقة“، في الحب، والأسرة، والغربة، والذات، والآخرين، وهنا لا نقف أمام أفكار المراهقة فحسب، بوصفها متعلقة بالحب الأول، أو حتى بالمجون والعبث، أو بإثارة الاعترافات الذاتية التي تبدو للقارئ العادي غير مسؤولة، عندما تطير معيار الأخلاق: ”إذا بليتم فاستتروا“، وإنما نتوقف أمام تجربة حياتية عميقة، في تجربة إبداعية جمالية.
نحن إذن أمام تجربة إبداعية تعيدنا إلى مجانين العشق، إلى مجانين ليلى، وعفراء، وبثينة.. أي إلى الجنون في حدوده المرضية التي توحي بحالات الاقتراب من المرض المزمن أو الموت، والوحيد الذي يتعذب في قصص العشاق كما يبدو هو الرجل الذي تتاح له حرية التعبير.
هذه إشكالية الرواية المحورية، إنها إشكالية مرض ”ناصر“ صاحب الذاكرة البيضاء، أو ذاكرة الحب الأول الخرافي المجنون في حياة ”مها“ التي قد لا تستحق بعد التأمل العميق في علاقاتها أن يهدر ”ناصر“ من أجلها قطرة حب واحدة، أو هذا ما يفترض، لأنها تنتمي إلى «الشيطنة»، وهذا تحديدا ما يجعل ناصراً بطل الرواية يلام ممن تعرفوا تجربته، فرأوا أنها غير طبيعية، لأنها موجهة إلى امرأة متزوجة، ولأنها بالتالي امرأة لا تستحق هذه التضحية الكبيرة، بعد أن تعددت علاقاتها على وجه التحديد..
ولكن أنى لهذا البطل صاحب الذاكرة البيضاء أن يقتنع بلوم صديقه ”ديار“ البغدادي، أو بلوم جارته العجوز ”مس تنفل“، عندما كان مغترباً في كندا، فهو مستلب، لأن ذاكرته كانت بيضاء عندما اصطدم بهذه العلاقة عن طريق صدفة مكالمة هاتفية عابرة في البداية، فغدا أسيرها بعد ذلك: ”أنتِ وجدت عندي ذاكرة لم تمس أصلا من قبل، وقلبا خالياً لا يشغله شيء أبداً، فدخلت فيه بسلام، وعززت مكانك، ووطدت ملكك، وسخرت الدماء والشغاف والأوردة“ ص16.
أما الإشكالية الثالثة، فهي أن الرواية لم تتقوقع على الذاكرة البيضاء في الحب، والتي تحولت كما ذكرنا إلى ذاكرة سوداء، بل نجد علاقات حميمة، وذكريات صافية، وتفاعلات إنسانية، برز منها: سياق أسرة البطل الذي توفي عنها راعيها ”الوالد“ منذ عشرين عاما، فكانت أسرة تلقائية حية بذكرياتها، متعاضدة فيما بينها: الجدة، والأم، والأبناء السبعة الذين تفرقوا فيما بعد بكل حميمية لبناء أسرهم الصغيرة. وسياق ديار البغدادي الذي اغترب عن بلده العراق، بفعل ما يعيشه هذا البلد من مآس، أبرزها أن ”ديارا“ لما كان في السابعة من عمره، تسبب بعفويته في مقتل أبيه الضابط في الجيش العراقي، كان هذا بعد أن سأله «الرئيس» عما يحدّثهم الوالد في البيت، فذكر له: الدبابة والمدفع.. فقُتل والده بناء على شهادة طفله. وسياق المرأة الغربية ممثلة بالعجوز المهمومة ”مس تنفل“ التي تتفتق منها أحاسيس الأم والحياة تجاه ناصر وديار. وسياق الكشف عن أعماق البطل في طفولته وإبداعه وحياته بين الآخرين في الرياض وفرانكفور معا. وسياق المحافظة على جماليات البنية السردية التي تنساب انسياب نهر يتدفق صباحاً.
من الصعب أن نتناول هذه السياقات في سلة هذه المقاربة القصيرة جداً، لذلك ركزنا على ذاكرة البطل البيضاء، بوصفها الذاكرة المحورية التي تجعل حياته الشاعرية السردية معلقة بجمالية امرأة متعددة العلاقات كما ذكرنا، ورغم معرفته بذلك كله، إلا أنه في ضوء تجربته العاطفية الأولى معها، بوصفها التجربة الأولى في حياته، قد حققت له نهاية سقف الحب والعشق، وهنا يتشكل عنوان ”سقف الكفاية“ أي أنها بالنسبة له تمثل بداية العلاقة بالمرأة ونهايتها، أي أنها بياضه وسواده معا، حياته ومماته، براءته وتجربته، إيمانه وعصيانه، التزامه وانفلاته، فرحه ودموعه.. تضادات كثيرة يمكن أن توصف بها حياة ناصر.. أما مها فهي رغم حبها الكبير له، كما يظهر من بكائها وكلامها وتصرفاتها، إلا أنها تتعايش مع علاقاتها بانكسار أمامها كلها، فتضع «البيضات» الملونة في سلة واحدة، انكشفت منها لناصر: حبها لحسن الذي رحل وتركها، وحبها لخطيبها «سالم» الذي أصبح زوجها، خاصة أنه الغني الذي يوفر لها المال الكافي لتعيش حياة مترفة. وعلاقاتها بسعد، وسلمان، والأستاذ الجامعي.. والخافي ربما كان أكثر من هذا الظاهر..
أي أننا أمام ”تمومس“ بطريقة أو بأخرى، وهذه ربما الفكرة المحورية التي يريد الكاتب على ما أظن أن يوصلها إلينا. إذ لا فرق بين عامر ”ديك المزابل“ في رواية ليلى الجهني ”الفردوس اليباب“، وبين ”مها“ التي يمكن أن نسميها هنا ”دجاجة المزابل“ إن شئتم في علاقات الرواية في ظل التقابل بين الذاكرة الذكورية البيضاء والذاكرة الأنثوية الملونة. وهنا تبدو أسئلة البطل مصيرية في البحث عن تناقضاتها المحيرة ”من أنت؟ هل أنت عاشقة أم فتاة تتقن هذا الدور فحسب؟ هل أنت ساحرة غجرية عجوز“ ص260، والدلالة النهائية من وجهة نظر المقاربة أنها تتقن دور الساحرة الغجرية العجوز!!
على أية حال، لم يشفَ البطل من حبه في نهاية الرواية، بل إنه بعد عامين من الغربة والضياع، عاد إلى مدينته «الرياض»، وهو يحمل هدفا وحيدا يراه في أحلام نومه ويقظته ووعيه، هدفاً لا يحيد عنه مهما تكن الظروف، وهو هدف أن يتزوج ”مها“ يوما ما.
فهو إن فكر في لحظات محدودة بالتوقف عن حبها، كما فعل حسن، حيث تبدو هنا لحظة التنوير عند ”ناصر“ واضحة في لقطتين مهمتين:
الأولى قوله: ”الحياة قصيرة بحق.. فلماذا أعيشها بهذه الضآلة؟! ليس عيباً ألا ندرك ما نتمنى، ولكن العيب الكبير ألا نسعى.. لما نتمنى“ ص398. وهو في هذه اللقطة كأنه يفكر بالكف عن حبها.
الثانية قوله: ”ربما حان الوقت لسحب السلطات من قلبي، ومنح عقلي فرصة التفكير المفيد، بعيدا عن تهاويم الحزن العاجزة“ ص399. وكأنه أيضا قرر التوقف عند الحل الصحيح، وهو الابتعاد عنها.
ثم لا نلبث أن نجد لديه بعد هذا الوعي إصرارا على أنه قرر أن يتزوجها سواء أكانت مطلقة أم أرملة، وكأنه هنا قرر أن يفضح أسرار علاقته بها، أو أن يساهم في تدبير مؤامرة لقتل زوجها، أو أن حدسه أوقعه في التوقع، فيعيدها إليه تحت شعاره النفسي الجديد في إطار البحث عن زوجة: ”لن أحاول الزواج بغير مها“ ص402 وبذلك انتهت الرواية بهذا القرار الحاسم: ”حان الوقت لأغير ملامحي، حان الوقت لأقتلع مها من عيون الدنيا، وأعيدها إلى قلبي“ ص444.
وبعد شهر من نهاية الرواية التي يكتبها هذا البطل، وبينما كان جالساً في المجلس الصغير الذي كتب فيه روايته، دخلت عليه مها. وبالتالي وضعنا الكاتب أمام نهاية مفتوحة، يمكن أن نشاركه في حلها على طريقة ”مشكلة وحل“!! فما هو الحل في رأيكم؟!.
من وجهة نظري.. أرى أن تكتبوه وتبعثون إلى الكاتب الذي أنشأ لنفسه موقعا خاصا على ”الإنترنت“، وبذلك قد تساعدوه على كتابة رواية جديدة، وربما تشرعون «أنتم» في كتابتها، مع نصيحتي أن تكون الكتابة في ق.ق. جداً.
هكذا قدمت ”سقف الكفاية“ حكاية عاطفية تمثل نموذجاً للمراهقة التي تبالغ في عواطف ذاكرتها البيضاء، والمراهقة هنا لا تنطبق على التجربة الإبداعية، وإنما المراهقة بوصفها تجربة حياتية، فالإبداع الجيد يبقى جيدا بغض النظر عن مضمونه، وذلك عندما يحقق شروط أدبية اللغة وجماليتها، وقد حقق علوان هذه الجمالية في روايته.
كما أنه حقق جماليات أخرى من خلال الحوار الناضج مع «ديار» البغدادي، والعجوز ”مس تنفل“، والأم والجدة وأروى، والثقافة، والأمكنة ”الغرفة، والرياض، وفانكوفر، ولندن..“ واللغة الشعرية، وبنية السرد!! وهنا تكمن الذاكرة الواعية، غير البيضاء، ذاكرة الكتابة التي تحتاج إلى قراءة أخرى، دون أن ننفي كون ”المراهقة“ بحد ذاتها تستحق ما كتب عنها في هذه الرواية بشروط فنية مقنعة.