علم الإنسان في قندس علوان
أقدم هذه القراءة باعتراف صريح: أنني لست ناقداً.. وما كنت أراني يوماً كذلك. كل ما في الأمر أنني قارئ مستمتع يحمل براحة كفيه كتاباً ويفتح فرجة بين أصبعيه ليغرس بينهما قلم، قلم أجدف به بين السطور، وتحتها، وحولها.. وهذا كل شيء. وما دمت فعلت ذلك فقد رأيت أنه يستوجب عليّ نقل رؤيتي حيال ما وقع تحت يدي من كتاب إلى صاحبه وشعبه القارئ؛ وهذا دور هام بحياة القارئ العاشق لكل ما يقرأه.
* * *
إنها قراءة أحاول فيها الابتعاد قليلاً عن الاستناد إلى نص الكاتب؛ لأتفرغ لتحليل سردي يختص بالمقارنة بين حياة عالمين دمجهما الروائي باسم واحد، وأنيق. حبذا لو جازت لي تسميته بـ (قندساني) أي: (قندس إنساني) أو(الإنسان القندس).
تلك القندس الصادرة عن دار الساقي في طبعتها الأولى للعام 2011 والخارجة على بياض يختصره رأس إنساني مقلوب، وغليون في مؤخرة فمه اليمنى. رواية اسمها القندس. تخوض في حيوات العوالم السدودية، وتغور في المجتمعات الإنسانية.
محمد حسن علوان الحكاية الشعرية المستدامة، والمتواطئة مع قارئه المتتبع لنشاطه منذ أكثر من عِقد. روائي عربي سقف الناس بكفايته، وتصوّف حتى ظنّ الناس أنه لن يخلع قلنسوته، ويخرج من معبده إلا ميتاً. طوّق القارئ العربي بطهارة حرفه، واستهلّ عالمه الكتابي بإيمان الحب وأركانه المتعددة. تلك حياة الكاتب أما حياة الإنسان في سدّه القندسي فهي تختلف تماماً. بالنسبة لي فقد تراءى لي إنسانه بهذه الرواية بعلو هام، واختصارات حيواتية مرتبطة بحيوان غير ناطق ولكنه ناجح اجتماعياً حدّ الوقار. يعلن علوان في روايته بافتتاحية ترابطية اجتماعية من خلال رؤية العالم الذي اعتبره جسداً كونياً يحتاج إلى ترابط جديد. اهتمّ في مطلع روايته بعالم الحيوان الأليف وشجاعته في عرض دروسه لمجتمع الإنسان الخالي الوفاض من أيّ درس في قرن مأهول بالحرائق. افتتح روايته بحدث مأهول بتعداد سكاني لأبطاله، واختيار عائلته واحداً تلو الآخر ليّعرف بجمال علاقته، أو ربما بأناقة التآلف الأسري فيما بينه وبين أبطاله، وفيما بينه تارة أخرى وبين تجاذبه أطراف الغربة مع حيوان غدا قطعة حركية في محوره السردي وبطلاً لا يقل عن: (نورة، بدرية، سلمان، غادة، منى، فاطمة، والديه .. والآخرون). حشر أسرة بطله(غالب) في نصٍ افتتاحي دون أن تشعر معه بوخز أو التفات كممرض أنيق يغرق وريدك بمحلول دون انتباه. (40) مقطعاً يعدك فيها بدروس اجتماعية، وشكوى أبطاله الذاتية، وبوح متراكم منذ الوقفة الأخيرة في الكتابة الأخيرة. انتهى مقطعه الأول بموسيقى لغوية حافلة بالإثارة والتشويق، ولفت الانتباه. اللغة الآن برأيي: جميلة ومبللة بالإبداع الروائي وليست شعراً منثوراً فحسب – فهذا الطور (الشعر نثري)، و(الشعر سردي) الذي استحاث القصيبي-رحمه الله- والغذامي-حفظه الله- على تحميل علوان نصائح الحذر، والانتباه من الانسياق وراء ما يمكن حذفه والاستغناء عنه، أو ما يمكن أن يشغل القارئ أكثر مما يهمه. بدا لي أنّ الماس كلما بُرِد أكثر كلما برق أكثر. كائن علوان الحرفي نشط وصوره منذ البدء حركية تحملك للهفة المطالع التي تأخذك لانسجام موعود. المشهد الأول أشبه بذلك الغليون الذي يغرسه في فمك لتمارس إدماناً من نوع آخر، وتستمر في ممارسة التطلع لسجائر الحزن، ودخان الحب المتطاير والمحدث دوامة اجتماعية يحدثك عنها باستيعاب، وانتباه أكثر.
استطاع علوان أن يخلق (الكوميديا الأدبية) دون إخلال. كقوله: (( عاد سرور إلى ملعبنا ذاك بعد أسابيع قليلة. تغيّر موضع عارضتي المرمة عدة أمتار حتى لا يثير حنق قائد سيارة آخر يحمل قارورة بيبسي …)). وثانية: بذات المقطع يقول: (( ترجّل أبي من الكرسي المتحرك وراح يمشي وحده مخلفاً وراءه سلمان يدفع كرسياً متحركاً)). كثيرة هي الروايات التي تخلو من الصور الحركية الكوميدية التي تنزلك لمقعد الحادثة ومسرح الأحداث وكأنك رأيت وسمعت كل ما دار مع مزاجية أبطاله. خلقت مثل هذه الصور بجوف هذه الرواية –برأيي- لإثارة القارئ وللإطاحة بنظام الروتين الممل في السرد المكثف. المقطع الثاني كان (دراماتيكي حركي) يثبت الفائدة الكتابية الضخمة التي استحلبها(علوان) من خلال محاوراته السابقة، وخلاصات الدراسات النقدية التي انسكبت فوق قلمه، وتجربته (الآحادية) التي بدت تتنوع وتخرج عن (الارتكاز) على لغة، وحب .. فقط. أرى من خلاصة المقطع الثاني وكأني بالكاتب يمهد لمسرحية قسّم فيها أدوار أبطاله حسب خدماتهم النصية سلفًا، وقبل أن يخوض في بناء سدٍ يحبس فوقه قندسه حتى النهاية. رواية (القندس) تنحى منحىً اجتماعياً، وفلسفياً، وواقعياً، وتقعي تحت أنفاس السيرة الاجتماعية المتورطة في المآزق، وتتطلب الخروج من الطلاسم الفكرية المعقّدة بين مجتمعين الإنسان والحيوان.
الرواية العربية تعجّ بالأبطال البشريين ولكن أن تلد رواية عربية بطلاً خارج هذا الإطار ليصبح القندس الحيوان المتنوع الصفات إنساني لدرجة التآلف مع الغرباء، واستلطاف قهوتهم، وتمرهم الخاص ببشرتهم، وأفواههم، وثيمتهم الاجتماعية .. بل إنه حمّله الوصمة العربية الشاهدة على الكرم. أن يبدو القندس عربياً لهذه الحدود ويشتهي قهوتنا، وتمرنا فهذا خلق نادر لبطل استثنائي نزل على ضيافتنا فجأة وعلينا احترامه واحتوائه حد الشكر وليس طرده وإعادته إلى نهر ويلامت. لقد غدا هذا القندس الإنساني ملهماً وله بطولات تخلّده وهذا شأن كاتب آثري وباحث في علم نادر لدى الثقافة الإنسانية العربية وإن تنوعت. علوان يتحول إلى الدكتور مصطفى محمود دون أن تشعر بذلك، ويعود علوان فجأة دون أن تشعر بذلك أيضاً. وهذا استنباط يستطيع الجميع لمحه منذ القطعة الأولى في الرواية التي تتحدث عن حيوان له علم منفصل عن الشعر، والنثر.
يطوّق علوان قراءه بمحاورات تربوية إسلامية في نفس مجتمع اعتاد على التتلمذ والتدرب عليها. استطاع صب حواراته بالمقطع الرابع بسهولة ويسر، وهذا ليس عيباً فنياً، إنما هو –برأيي- خلق روائي يستميل به القارئ ليقوده بحذاقة، وتفنن، ولطف لغوي موعود به.
في المقطع الخامس ظهرت وجوه (الرمزية) المفصح عنها كقاموس جديد بين الجينات الوراثية التخيلية المجتمعية والأسرية.. والواقعية أيضاً. ثمة ترابط بدأ يعقده حول عنق المجتمع الإنساني المتحول إلى مجموعة قنادس أليفة عليها شرح تفاصيل حياة روائية فخمة. ظهرت هذه الملامح بأناقة ودون تكلف أو خلل سردي. ثم يسير الكاتب في استلهامات (دفاعية) داخلية يعلن عنها كبرتوكولات أنيقة يضع بها أولى قوانينه الأسرية المختلفة، والمحاول بدوره جمعها فوق حنجرة واحدة.
في لمحة أنيقة قرع باب الطبقية الاجتماعية التي لم تكن في غير الإنسان ومجتمعه. حاول تلميحاً وتصريحاً أن يلفت الانتباه إلى أنها ليست عادة (القندس). ثم مضى في تناول قضية (تحديد النسل) وبذل لهذا حواراً صريحاً بمعاناة فخمة في مجتمع يرّحل الطبقات ويبرمجها في بعضها البعض لتبدو فناً مغناطيسياً يحطم المجتمع، ويشتته.
وعن تطويق زوجة خاله بوصف مهين وتشبيه كان يمكنه تجاوزه لو أراد في قوله: (مصنع جزم) رأيته استعذبها كسياق سردي. ولأنني أؤمن أن اللغة لم تضق يوماً ما مع علوان، ولن. فلعلي أقول: ربما أراد بها حدثاً ساخراً ليس إلا.
المقطع السابع كان استعراضاً فنياً، ولغوياً تصويرياً لعلاقة حب يقتلع فيها وقته مع غادة.. بطلته العشقية الثائرة على جسده، والحالمة بصباه، والخارجة من قدرته إلى ثراء رجل آخر. يبدو المشهد للوهلة الأولى تغذية حسية للقارئ، ووقفة للكاتب الذي آثر الكتابة عن الحب الذي وصفه بأنه ما زال يعطيه المزيد من الكتابة، وأنه لا ينتهي من كتابته. تنقّله في الأماكن أعتبره نجاح روائي خاص، وخاضع لترتيب سردي بريء بجدارة من الوقفات، أو التشاورات بين الحذف والتعديل. فلكأن المقطع وما قبله وما بعده كتبت في زمن واحد، وشهيق سردي واحد لا انقطاع فيه.. إلى أن نراه يتابع محاورة الحب ويستدعي الشريط الديني وثمرات تحولاته في هيئة بطله(سلمان).
وعن ملامح الأربعيني، والأربعين وجريانه المستقبلي. وقدرة الذاكرة على العلاج بالكي حرفاً، وليس ناراً، أو حديداً فنراها لافتة انفلاتية لحياة معتمة أحياناً، ومشبّعة بالتجارب أخرى. وعن طقوس الأمومة فقد تناولها في مقطعه التاسع باستدعاء لعذابات الأجنّة، وعوالم الولادة الغيبية. (الأم) مشهد اعتمادي في نصوص (علوان) وقد اختزلها هنا بحياة صورية: يدخلها مرة في بطولة، وأخرى في إطار حسي فقط. بذات المقطع يمضي لتداعيات العقاب الروماني وجلد الذات وحق الرضاع، وآثاره على العلاقات الاجتماعية المسلمة. مستمراً في إحداث نداءات ذاتية نفسية لأبطال ذاكرته، ولضمير مجتمعه القندسي الجديد الذي بدا أمامه وكأنه يبني معه كل السدود؛ ليلغي تكرار الغرق.
في الغياب وتزاحم العلاقات الحميمية بالواقع تتراءى لنا علاقاتنا بوجه مرفوض، أو حكايات ورقية تعكس الشبهات التي نقع فيها دون أن نعلم. هكذا يطرح (غالب) ألبومات مشاعره المكبوتة التي يبوح بها لنهر لا يرى فيه سواه مهما تزاحمت حوله القنادس، والأرواح البشرية؛ فقد غدى قندساً يؤول إلى ما قد يؤول إليه مجتمعه الجديد الذي بناه في نظراته المائية، وانسحاباته (التذكرية)، بكل هذه التناهيد الحزينة يظل بانتظار(قندسته) البشرية الخاصة به والمتمثلة في (غادة) التي تكرر محاور انفلاتية –برأيي- قرأتها في مقاطع وإن بدت (ثيمات) في بعض أعماله السابقة. الإيعاز بقصة حب لامرأة أخرى والنظر فيما هل ستنجح أو تفشل ليس عيباً روائياً، ولا كتابياً، وكذا تكرار هذا الحدث .. إنما كان بإمكانه ترسيم أدوار جديدة لبطلته، وترويض المسافة الحسية فيما بين أعماله السابقة، وروايته هذه. وإنه على ذلك لقدير.
يستمر (غالب) في دك حصونه النفسية، وينزل بين الحين والآخر إلى غار ذاكرته ليستحضر منها ما فاض عن وقت حزنه، وحبه، واشتهاءاته، وبإيماءة أنيقة يطرق حوادث الانفصال الزوجي، والخروج من بيت الزوجية .. وهذا ما حدث بين (فيصل) وزوجته. قضية استطرادية لا تضر السياق إن لم تنفعه، ولكنها على أية حال قضية غوَّص فيها مجتمعه (الإنساني) الأساسي الذي أسميناه(بالقديم).
عندما تجد زوجة أب بمواصفات هائلة ونادرة كالتي ستقرأها في المقطع الرابع عشر فعليك أن تحبها، وترحب بها. إلا أن الذي حدث لتقارب العمر فيما بين(غالب) وبين زوجة أبيه خفف من وطأة الاحترام العُمري، وسمح لتطفلاته بصلوات استسقاء عبر فرجات الحظ المحرّمة. وهذه حالة شيطانية لا يعاقب عليها قانون الرواية؛ فهي برأيي (قضية تلصص سردي) عميقة. وكأني به جاء بها ليستنطق ما يحدث في مجتمعه من تشويه ذكوري للمحارم. لمست ذلك حسياً في تلصص غالب على أناقة زوجة أبيه وعريّها المستور بحرمة بيت والده.
يواصل الروائي في استنطاق حياة (غالب) القندسية الجدّية الأكثر سعادة من الحياة البشرية التي جمعته بعائلة البشرية. يبكي اغتراباً في أطوار ومقاطع متفاوتة، وكأنه يجد في بكائه فرصة لتدريب الأعضاء، وتوضيب السلوك الذاتي. الأماكن والشخوص تبدو في وجه (غالب) جافّة لأنه يحمل فراغاً عاطفياً ضخماً لن تملأه سوى أنثى صدره التي اعتادت تأثيثه بملامح الغرام.
الطقوس العائلية تستفحل وتتنوع حسبما تقتضيه الضرورة، وتحفل به اللحظات الساردة. الأخ لا يرضى بغير دور يليق به حتى وإن كانت الأخت من أم أخرى، وسد آخر. وقد تفرعت أحداث (نورة) مع(غالب) وهو يحاول أن يغلب (بطالته) عن أي عمل آخر غير الإخاء وتمنحه الفشل بجميع تصرفاتها. نورة تمثلت بوجهه ككبرياء نام بصدره ولم يستطع طرده. تلك محاور تجدها في المقطع السادس عشر، ودونما عناء يأتيك بها، وبجمالية حوارية فائقة وفاعلة يسكبها أمام نظراتك بسرد(فوقي اجتماعي)مرة لإنهاء سدوده العائلية، وأخرى لسد ثغرات أخت تريد أن تبني سداً آخر داخل السد الأساسي.
يخوض مقطعه السابع عشر بمناقشات هادئة في وجه الحضارات. ينحو بك إلى فحص اجتماعي شامل لتاريخ مجتمعه القندسي الجِدّي يحيطك بتاريخ يجعلك تطفو على أحواض ويلامت في رحلة سردية هادئة يطارد فيها أسباب مستقبله الغيبي. قسوة وليونة الأمومة ولعنة البعد تطارده. اعتصار الشهوة داخل المدن الغريبة. التخطيط المتطور لثورة الحياة الدافئة والمستقبل الأنيق. النجاحات الملغومة خلف الحب، والحنين، والألم، والجوع إلى امرأة تنكح صدره في الليل والنهار دون أن تمسه. كل هذه المطاردات (الفن لغوية) يجهش فيها (غالب) بكاءً وحزناً دون أن يرحمه قندس بشري واحد، أو تأتيه قندسته الطافحة على نهر تخيلي آخر في محيط جسده الذي أسهرته القهوة، وأذبله الانتظار. سرد فائق الحضارة، والنضج، عميق الفكر والإبداع، نقي المعالم الفنية.
في المقطع الثامن عشر تلمس في سرده المحافظ الملحوظ الذي يجيء به على لسان الأخ المطلوب منه طريقة حياة خاصة بمجتمع محافظ، وأن يكون (حوضاً) للاغتسال، وليس أخاً للأمان. غالب مع منى، ونورة. وسلمان مع العائلة، وظروف المجتمع القندسي المتحضر الذي ينزح بعيداً عن رؤية سلمان ومطالباته بالانتظام على سلوك ديني واحد يقول: (( في غمرة تديّنه التي لم تطل توتّرت علاقته مع العائلة. راح يجد في كل مخالفة شرعية تحدث في المنزل إهانة مباشرة له.)). ويمضي في استرسال مواقف غير محافظة أو متدينة في رؤية (سلمان). ما أشهى هذا الاستواء السردي. خط استوائي مطير فعلاً.
يواصل الروائي في استحضار علاقة أبطاله بالاغتراب، واتجاهات السفر، ومهارات تطوير الذات وتحديد هوية الهدف إذ تلحظ ذلك بارزاً بالمقطع التاسع عشر مشمولاً بتناول قضية تمازج الثقافات الشرقية والغربية.. إذ يطوّح(غالب) بثقافات الغرب أمام تواضع فنون الحوار، وشمول الذهن لأفكار تُبذل لإجراء فحص إنساني على مستويات المدربين الغربيين وتباسطهم كمسؤولين، مع الذهن وتدريبه وتقازمهم أمام المثقف العربي في التحليل والتوضيح. كان مشهداً انتاجياً ذاتياً وكأنه يقطف من سيرة ذاتية أكثر من كونه مجرد إسقاط على بطل روائي. وبمثل هذه الاسقاطات الواقعية حين تتلبس بطلاً روائياً تبدو أكثر أناقة، وجاذبية من كونها تمس ذات السيرة بعينها. وهذه متاهة جميلة وفصيحة تمنيت أن لو طالت.
بمقطعه العشرون يتناول قضية أخرى تدور حول(سلوك التربية السليمة) وهذا مشهد هام في عالم الإنسان الواقعي أو الروائي. يتناول بهذا المشهد الأكثر أناقة آثار التربية على نشأة الأجيال، ويسرد أفكاراً خاصة، ورؤية عميقة مستقاة من عالمين متجاورين وبذات الوقت متباعدين: عالم القندس، وعالم الإنسان، ليكون بذلك مشهداً (تكتيكي) بنكهة علوان.
يستمر (غالب) بعد هذا المقطع بتناول أحدث ألمه الاختياري، وجفاف الاغتراب الحارق، وأهمية الدموع في مواسم الإجحاف. يراهن الروائي بكل عمل من أعماله على تناول الذات وجلدها حزناً، واحتياجاً، وذوباناً في تمريض أبطاله بالتهابات الحنين، ثم لا يفتأ يحاول أن يشفيهم باللغة المتماسكة-هذه المرة- (وحين أقول هذه المرة لا يعني أن ما سبق كان رخواً.. بالعكس كان وقاراً سردياً، لا يقل كفاءة عن هذه المرة)، ولكن هذه المرة بافتعال تجسيدي هائم في التشخيص الاجتماعي المميز. الدمع بالنسبة لغالب كائن حي يسامره، ويعلن علاقته به وأهميته عنده بقوله: ((كنت أعرف أن البكاء في حقائب الراحلين أهم من القمصان والأحذية. إنه الفعل الوحيد الذي يرطب جفاف المجهول ويحمي من تقلبات الغربة…)). يصرّح الروائي بهذه المشاهد (الساد ذاتية) أنه يستطيع بالفعل إقناع قارئه بالخروج من مآزق الحب إلى الحزن، إلى الاغتراب، إلى العوالم الأخرى التي ينجذب إليها القارئ بإمتاع مستدير هو من يختار مشاهده بنفسه لا الكاتب وحده يجبره عليها.
فكرة أن الإنسان لا يستحق أن يعاقب بالشهوة فكرة طارئة يستعطف بها الروائي حالته لتهدأ، وقطار نزواته ليقف على مجتمع خالي التفكير أحياناً، ومتوارٍ أحياناً أخرى. مجال اللغة يتطور دون احتسابات فكرية، أو اجتماعية، أو عطب سردي. استيلاء (علوان) على مجريات الأحداث باعتقادي سمح له بتطوير الحدث الصغير وتلبيسه ياقة تناسبه، ولا تمس رؤوس الرواية الأصلية مطلقاً. برأي الروائي باستخلاص قارئ: (لا يمكن لمجتمع تذوق نكهة التمدن والتحضر بعد حرب خليج خاطئة أن يدفن ملامح شهوته ويتخلص منها دون قوانين رادعة)، القارئ سيلحظ هذا دون تصريح، أو تلميح. ثمة نزهات بغابة سردية رائعة تسير فيها دون ملل، وتفتح ذهنك أمام معطيات حدثية غير متوقعة أبداً. وهذا ينهض بأدب علوان الذي يجيء بروايته هذه بعد فحص مأهول بالوصايا النقدية السابقة. وبرأيي: جاء علوان منتبهاً بجدية تامة لتهيئة نزهات فاخرة تليق بقارئ (القندس). يستمر(غالب) في تفسيرات جسدية لعالم الإنسان المحكي مطلقاً تلويحات لفظية تشكلت مع المجتمع الخارج من حرب عسكرية، والداخل بحرب أخرى اجتماعية. ينسج لنا الروائي تلك الحرب: في كون عدد هائل من رجال مجتمع غالب يمرون بسعار، ويحملون ذنوباً ضخمة يحاولون التخلص منها في مراحيض دائرية من لحم بشري. وهذا برؤيته(لا يليق بذكورته)؛ فغالب: جنسه الحب وكفى. الحب الذي يطارده ويدعوه دائماً إلى مائدته: خاويةً كانت أم ممتلئة. إلا أنه يكتشف في كل مقطع متقدم بأن الحب منهكه، وغالبه في كل مرة. منذ أن كتب (علوان) عن الحب وهو سفيره، ومنذ هذه الرواية وهو من وجهة نظري الشخصية يستولي على هذه السفارة العربية. إنه منصب أدبي فلسفي، سردي يليق به بتفرد (كما لاقت بأحلام مستغانمي حالة محبرتها الأنثوية الدفاعية وسفارة الأنثى العربية).
يرجع (غالب) بالمقطع الثالث والعشرون إلى بوح ثقيل، وعقاب مأساوي يتوه في أحزانه الذاتية وينقسم بين قلبه الغير مذنب بحبه، وبين ذنوب كبرت بانشطار غير عادل بين: أشخاص غرباء مثل: (كونرادو)، ونبلاء كرموز صامتة بمحاذات السرد. أو بلداء كغادة التي لم تستوعبه ولم تأخذه كاملاً أو تتركه كاملاً.. هي إنما ظلت تعاقبه بحبه لها. رغم أنه أعطاها ضوء حاسم، وليس أخضراً حين قال لها: ((لا تفتحي أمامي موضوع الزواج.. إلا إذا انفصلت عن زوجكِ!)). يمضي غالب في سرد حكاياته، وسيرته المسكونة بالظروف والحياة العائلية المبهمة، والمعلنة بذات الوقت. أو المتأخرة في الداخل السردي، والمتقدمة في الذهن القرائي القافز بين التوقعات. يبدع في الإمساك بزمام الحدث، وإسعاف الحكاية بأسماء تناسبها، وتخدم وقائعها. أسلمهم الأدوار الخاصة في البوح، والعامة في الأنين العشقي المتورِّم .. وكان بالفعل(كل فيما يخصه).
يعود الروائي في مقطعه الخامس والعشرون بأبطاله مستغلاً لحظات ذاكرة صافية ذات مرة، ومتعكرة بأحجار صغيرة في وسط نهر طموحاته القلبية (الويلامتية) المتورِّمة بوحدته. في خضم هذا التشويش (التذكري) الذي يلجأ إليه (علوان) هو إنما يستعيد خيوط الحب، وعالم الإنسان العشقي بداخله القديم، والنظامي(المتقندس) بداخله الجديد الذي بناه على نهر ويلامت، ومياه بورتلاند، وجذوع الصداقات الليلية المعقودة بصفقات حزينة، وأليمة. وحدها الذاكرة المرصّعة بغادة التي تستدعيه ليهبط بالحب إلى سماواته الورقية في المنتصف الأخير لرواية لا تمنحك فكرة الشتات أبداً. أتخيل أن إصراره في توظيف الحب بين مقطع وآخر هو التهاب فني، وتواطؤ قلمي، ورابطة قلمية حسية نشأت منذ سقفه الأول. لذلك هو يفي بهذه العلاقة المتراصة إلى مسيرة احترامه لهذا الكائن، ومنحه وظيفة بدوام كامل في جل نصوصه. (غادة) بطلة العشق الطويل، والنصف التي ورثها من أنثى ماتت جسداً-بالنسبة لغالب- وبقيت على هيئة نصف فحولة لا يمكنها إتمام عملية جنسية تامة دون أن تجيء بعدها بطوفان حزين هو وحده من يعي آثاره، ولكنه في حقيقة نفسه يحتاجه ليلغي كل ما يعنيه، ومالا يعنيه.
يواصل غالب في استنطاق الحزن الفج الذي يغيّبه عن العقل، والدنيا، والواقع. كان عليه أن يغيب بعد اشتعاله بنيران الذاكرة، وكان السُكر ملاذه، وهو بنظره خير من مواجهة ذكرى (فاشية) خسائره. لم يعد يجمعه بالواقع سوى رسائله. إلا أنني أشتم رائحة أحداث تسقط لفينة من يد الروائي، واستعادات مكرورة: بين (داود، وبورتلاند، ووجه يحتاج للحلاقة .. فقط). وما يغفر له برأيي كونه: هبط للذاكرة احتياجاً لحدث واحد فتداعت عليه سائر الذكريات بالتكرار وحمى الوصف الدقيق الكثيف.. وهذا برؤيتي القرائية: ليس شرخاً نصيًّا، فقد يحدث هذا في سائر الأعمال العظمى الرابحة، والباقية وحيدة في النهايات الربحية الأدبية، والكلاسيكية.
يواصل (علوان) داخل أركان كتابه: (القندس) تحليل الوجود الإنساني المفكك من خلال تركيبه على حياة القنادس المتماسكة، والتي أشبه ما تكون بشركة تأمين يتولاها الجميع وليس واحد بمفرده كما حدث هذا في (بيت الفاخرية) وما تلاه من بيوت: (سلطة أبوية) منتقلة لأخيه (سلمان). ينسج الروائي فكرة هذا الثوب ويعقد داخله طلاسمه الحلال التي تستحوذ على ذهن القارئ دون مسٍ ولا لغوب. أفهمني علوان في هذه الرواية أنه: (على فِكر وفلسفة وحكمة أي كاتب أو روائي كان: أن تثبت لمن يقتنيه أنه قادر على إمتاعه، وإدهاشه، وجذبه لغرق لا يميته بقدر ما يحييه، ويفتح مداركه، وينضح على وجهه بمداد الإبداع، ويعلّق بداخل فمه غليون المتابعة الشيقة). في (القندس) توافر الفِكر التنويري، والفلسفة التشويقية المتناولة لجميع الحائزين على هذه الرائعة.
في مقاطع البوح التنازلية الأخيرة تغيب روح(غالب) عن القدرة اللفظية، أو التذكرية، أو الضميرية وتمضي بعيداً لبث شكواها، وأحزانها فوق ألواح ورقية بقلم كالدسار يتخلص فيها من ألغام، ويزرع فيها ما يشبه الألغام. يقول: (( بكيت بعد الحب قليلاً ثم نسيته كما طلبت مني. أما هي فلم تبك مثلما أنها لم تنس. ظلت قاتلة طيبة تعتني بقبر ضحيتها بلا مللل.)). الصور الزيتية بإمكانك رؤيتها تتحرك أمامك لو أمعنت فيها النظر بإحساس. وما أفضى به علوان داخل روايته هذه وغيرها أشبه ما يكون بمتحف للرسم. لكل كلمة ريشة، وفكرة، وحركة، وحياة أخرى. يحملك لتشاهدها، وتحياها وكأنك حاضر لكل ما جرى وما كان، وما سيكون من توقعاتك.
برأيي: أن الحب عندما تغزوه الحالات الباهتة والتخريبية يتفجر أكثر.. وهذا ما حدث مع (غالب) حين بعث أحزاناً (تكعيبية) لعصر نفسي صارع فيه تناسبات: حسية ومعنوية وزعها بتساوٍ على: العالم الإنساني الناطق، والحيواني المعبّر بأفعال، أفعال كشفت له على أنه مجرد ضحية في حياة لم تجلب له غير أحمال بائسة، وأثقال شهوانية لا تنخفض حمولتها. لم يخلو هذا العمل من: حكم الشيخ، وتجارب الزمن المترامي الأطراف الطويل بوحاً، والعميق اختياراً سردياً، والغير ممل؛ لتنوع أحداثه بين(بورتلاند، والرياض، ولندن، وجدة، وأحياء نهرية، ومدن بنتها القنادس الحيوانية. قرىً قندسية لن يجرأ أعظم مهندس إنساني على مجرد نقلها، أو تطبيقها.. وكل ما يمكنه هو دراستها -فقط- لإثبات قدرة الخالق عز وجل على تكوين وترميم حياة البشر بمجموعات لا تنطق إلا تصاميماً في غاية الإبداع. ينقل الروائي هذه التفاصيل الدقيقة كما فعل الجاحظ في مجلدات(الحيوان)، وكما رأى في بورتلاند.. وتمنى أن لو ملك قراراً بحياة عائلته أو مجتمعه يوماً؛ لحولها إلى حياة القنادس الأكثر تعاوناً، وتضحيةً، وإصراراً، وتكاتفاً. يوحي لنا(علوان) بإيحاءات هامة، ولا يتركنا محبوسين عند هذه الصور الفوتوغرافية التي التقطها بقلمه. فماذا تراه مؤلف(الحيوان) الجاحظ سيكتبه لو أنه جلس يوماً أمام نهر ويلامت، تتحرك أمامه القنادس وتبني سدودها في أبهى صورة، وأوثق عقار هندسي؟.
يمضي الروائي بمقاطعه سارداً نشاط القلب القائم على ركيزة (الذكاء العاطفي) ويرى أنه يجب أن يكون مرتّباً حتى في مشاعر الغيب المؤجلة، والغير محتملة. إنه بذلك يدخل بالقارئ في طور التوقعات، والحبكات المتطلبة لتصور القارئ أكثر من الحلول التي قد يفترضها الكاتب أو يفرضها الحدث، والسرد معاً. لقد مضى يسرد انتظاراته لغادة بقلق رغم وعدها بالحضور.. كان يُقلق قارئه بحذاقة ويرمي في دروبه مجموعة تنبؤات(نفسية) وأخرى قدرية. بدا (غالب) في تخيلي (رجل على هيئة سر) وبدت لي أحداث المقطع التاسع والعشرون طلاسم أنيقة تكيّفك مع أدوار أبطاله، وأماكنهم، واعتقاداتهم.
عندما يريد الروائي عادةً بأي عمل كان.. الخروج من غابة السرد فلن يجد ملاذاً آمناً يستضيف فيه قارئه ويحافظ على استقراره، وحقوق احترامه الفكرية غير(الذاكرة) والاستطراد باتجاهين: ماضٍ أو مستقبلي. تكاثر العودة لهذا الملاذ، والهبوط الغير اضطراري –أصلاً- لدى علوان ليس باعتقادي سوى إثبات على احترامه لقارئه. وكذا انتقاله من طور اللغة الشعرية السردية إلى اللغة الشعرية السردية التامة. سنلحظ عبوره لملاذ الذاكرة المحكية لا الذاكرة الاستطرادية الحشوية المحشورة بالسرد لتعبئة صفحة، وإضافة رقم للكتاب. كان برأيي متماسكاً أشغل وقتاً هاماً بسرد قصصي بدأه من الجنوب: بحكايات القدماء، وقصص التحالف خلف تقاسيم الخوف. الذاكرة هنا تكبر وتصغر حسب ما يروّج له الكاتب من أحداث تاريخية يود أن يمضّي بها أمسيته العالقة في جبهة الذكريات. إن كان على المسافر أن يقف بمحطات أثناء رحلة طريقه فكذلك للقارئ حق الوقوف أثناء سباحته بالأنهار السردية.. وعلى الكاتب أن يهيئ لقارئه محطات يقف بها.. وهذا ما فعله علوان بتمكن أنيق بهذه الرواية الجميلة صدقاً.
ليس في المقطع الواحد والثلاثون من مشهد غير سرد قائم على حاجة الأب لأبنائه في مراحل عمره الأخيرة. وليس فيما بعده حتى النهاية سوى أبعاد نفسية مقسومة بين: العشق المفهوم أخيراً، وبين طفح الشهوة عند(غالب). وحكايات مستمرة ومذابة على سطوح الذاكرة خارجة بفرصة أخيرة. كان من المحتمل أن تدخل الرواية في أطوار أخرى ولكن المفاجأة الصادمة بالموت وما تلاه من تركة غير متوقعة جعلت من الحدث بين المعلن والمتوقع. إلا أنه متوقع غير معلن على أية حال. تنتهي الرواية باختيار كل قندس إنساني حياة مناسبة له على غير عادة القنادس الحيوانية التي لا تشتهي غير التجمع حتى في حالة الموت، وانهدام السدود.
أخيراً: عند المقطع (40)، أمام هذا الرقم وقفت مشموماً بتأويلات قارئ لا سلطة له على السحر النفّاذ.. لماذا أربعين رقماً وليست فصلاً؟ أكان علوان بهذا العمل(يرقّم سنواته) لتبقى مرحلة الأربعين الآتية من حياة بطله (غالب) خالدة بمزاجه، ونكهة ما عاشه من صراعات صلبة؟ بالتأكيد لا أعلم، وحده القندس يعلم ذلك وأكثر …