صوفيا: حكمة ”علوان“ الراحلة
كاتبة لبنانية
إن الراوية بوصفها نوعًا أدبيًّا نجحت خلال مدة وجيزة في الاستئثار بمكانة عالية في الأدب العربي، وذلك لا يعود إلى القدرة في تطور وسائل السرد فيها فحسب، بل يعود أيضًا إلى القدرات الفائقة في تمثيل المرجعيات الثقافية والنفسية والاجتماعية، وتقديم تصور جديد عن ثنائيات الوجود والكون.
لقد استثمر بعض كتّاب الرواية في المشهد السردي هذه الثنائيات والفلسفات الوجودية، لينشئوا بها عوالم وفضاءات لحركة نصوصهم، وهذا ما نجده جليًّا في رواية “صوفيا”، للكاتب السعودي محمد حسن علوان.
البنية والدلالة
يحمل عنوان الرواية ”صوفيا“ أسئلة كثيرة: هل هي امرأة؟ أم عقيدة؟ أم فلسفة؟ وبالنظر للأصل الجذري لكلمة ”صوفيا“ نجد لها حضورًا في اللغة اليونانية؛ إذ تعني ”SOPhia“ الحكمة، فهم يفصلون بين ”Philo“ التي تعني المحبة وبين ”SOPhia“ التي تعني الحكمة، فتصبح ”محبة الحكمة“ ويقصد بها السعي وراء المعرفة بخصوص مسائل جوهرية في حياة الإنسان.
وبالعودة إلى الرواية نجد أنها جمعت في نمطها الحكائي سلسلة من الأضداد والمتغيرات، عملت على مقاربة أمزجة مختلفة لشخصيتين هما: ”معتز“ الشاب السعودي المسلم، و”صوفيا” الفتاة اللبنانية المسيحية.
فضاء الكتروني وطريقة مستهلكة
التقى معتز بصوفياه وهو الشاب الثلاثيني من عمره بعد أن فقد والديه في حادث سير.. يقول الشاب: ”أبي وأمي ماتا عندما بدأت أملّ منهما“.. تواطؤ للموت في حالة غريبة جدًّا، وبعدها تزوج وما لبث أن ملّ جسد ”زوجته“، لأنها كانت تغرقه بالملل، عدو معتز الأول.
أراد معتز الشاب السعودي أن يدخل في حالة تخرجه من الملل، لذلك وجد أن صوفيا التي لا تشبهه لا في العرق ولا في الدين هي الملاذ الوحيد لإنقاذه من شبح اسمه الملل!
السرطان ”Cancer“ وهو المرض الذي تفقد فيه خلايا الجسم قدرتها على التكاثر المنتظم فتنقسم في كل الاتجاهات دون وجود من يلجمها ويقيد تكاثرها، كان سببا لزيارة معتز لبيروت التي كان يبتغي منها الوقوف مع “صوفيا” في صراعها الشديد مع المرض.
من خلال هذه الفضاءات السردية نجح علوان في تمرير كومة من الحزن داخل فضاء أساسي يتعالق مع فضاءات أصغر منه، ولم يحرّك ذلك بطلي الرواية خارج تلك الشقة الصامتة التي اختارتها صوفيا لتموت فيها.
دلالة الألوان وصوت الأشياء
عندما تقرأ الرواية تجد أنك منغمس في اللون الأبيض، وهو لون الملاءات والأسرّة، وكأنما أراد التعليل بأنه إذا ما كثر البياض جاء الموت على غفلة منا.
الرواية اتكأت على لغة سردية شعرية عالية من خلال استنطاق الجمادات وشحنها بإيقاعات منتظمة صورت لنا “صوفيا” بمختلف حالاتها، شاحبة ضاحكة، حزينة، كما أن هذه اللغة نقلت لنا أصوات حالات متفرقة، وعلاقة وطيدة بين كل ما جرى.
العشق ودلالاته
تتطور عواطف معتز في حب عميق لصوفيا إلى قصة عشق بين مدينتين ـ الرياض التي يسكنها ”معتز“ وبيروت التي تسكنها ”صوفيا“ ـ تختلفان عن بعضهما في كل شيء عدا دقّات القلب، التي كانت تجربة لحب صادق وإن كانت مدته قصيرة جدًّا، إلّا أنه أتى بعد جوع.
الملل: إفراز لحياة نفطية عاشها معتز، لذلك حاول أن يتعاطى مع حياة مختلفة عن تلك الحياة الفارهة، فأحسّ بأن صوفيا نقلة عاطفية وجريئة في أبعادها وطقوسها وطقسها البيروتي المختلف عن الرياض ذات الرمال الذهبية وطقسها المركب.
الحياة الداخلية للشخصيات وقيمة “الموت” كجدلية قوية عند الجميع وخاصة مع من نحبهم، قد أوجزها بإبداع لا مثيل له حين قال: “رأيت كيف تموت الملائكة.. كائنات من نور وأخرى من طين، إلّا أنهما تحملان ذات الملامح عند اصطدامنا بحالة عجيبة كالموت”.
يضمّن ذلك كله بخوف صامت أشبه باللغز الذي لم يعد يعلم شيفرة له، حيث كتب علوان: “ملاك يموت في سقوط ثمرة وآخر يموت في المنطقة المسحوقة بين جبين وسجدة”.
استخدم علوان تقنية اعتمد فيها على وابل من التشبيهات ليضيف حالة من التعجب، ليجعلنا نتساءل كثيرا عندما لا نصدق ما يحصل لنا.
العاطفة الحسية والبطل الغريب
يبدو أنه أطعم الكلام والحالة بشيء من ”الورطة اللذيذة“.. أحب ”صوفيا“ ولمس تفاصيل تفاصيلها، ولاحظ مرضها وآخر ورقة تقويم لها.. كل ذلك وهو (معتز) بطل في غربة عن بلاده وعن العالم الجديد الذي وضعته الأقدار ها هنا، أحسّ معتز بأن ”صوفيا“ ثلاث فتيات، تلك التي تعرّف عليها، وتلك التي عشقها في ظرف شهر وتلك التي تنازع الموت ”الفكّ القاتل والمحتّم“
أبعاد فلسفية
الصحة والمرض.. النور والظلام.. الرحيل والبقاء.. أبعاد فلسفية تظهر جلية بالرواية، ليفرض السواد حضوره دالًّا على حداد قاتم وكأن الموت حاضر في كل شيء.
أخيرًا: نجح علوان في تقديم عمل روائي سعودي متميز معرفيًّا وثقافيًّا، بدءًا من لحظة الموت الأولى وانتهاءً بها، ويمكن القول أن هذا العمل يعد مرثية سردية جمعت في طياتها رموزًا مختلفة مختزلة لمجتمع غير بعيد عن متخيل الكاتب.