موتُ صغير
سيرة بن عربي في عالم العشق الإلهي
كاتبة وباحثة جامعية
فاصل شخصي جدّا :
عندما تلقيت هذه الهدية منذ أشهر أي رواية “موت صغير”، لم أرغب في قراءتها منذ البداية قلت أنّ رواية عظيمة حسب ما قرأت عنها، فلا يجب أن تقرأ هكذا أي دون طقوس أو مشاعر مختلطة، سأنتظر شهر رمضان. بين العطش والجوع رافقتني هذه الرواية، أفتح الصفحات، أقرأ، أبتسم، أبكي، أستغفر، وأطلب الله دائما أن يقذف نور الإيمان بصدري، شكرا بن عربي وشكرا محمد حسن علوان.
استطاع الروائي السعودي محمد حسن علوان أن يحقق نجاحا منقطع النظير بعد نشر روايته ” موت صغير ” الصادرة عن دار الساقي سنة 2016، والتي حازت على الجائزة العالمية للرواية العربية بوكر سنة 2017 ، رواية من الحجم الكبير 591 صفحة وقد استوحى الروائي العنوان من إحدى مقولات بن عربي ” الحبّ موت صغير “.
لم يأت نجاح ” موت صغير ” من فراغ فهي رواية استطاعت أن تلقي المحبّة والسلام في قلوب القرّاء في وقت صعب تقريبا على الشعوب العربية وهي التي عاشت في السنوات الأخيرة جرائم تنظيم “داعش” الإرهابي في حقّ النساء والأطفال بل في حقّ الإنسانية جمعاء.
استطاعت هذه الرواية ” موت صغير” أن تمنح فتات الأمل وأن تضيء طريق الإيمان بسيرة إحدى العلامات المشرقة في التراث العربي الإسلامي ” محي الدين بن عربي ” والذي مازال إلى اليوم راسخا في قلوب المتصوفة من جميع الأديان “أدين بدين الحبّ أني توجهت ركائبه فالحبّ ديني وإيماني.
تلقي الرواية الضوء على سيرة محي الدين بن عربي( 1240- 1164) أحد أهمّ أقطاب التصوّف في التراث الإسلامي بل فيلسوف الصوفية وشيخها الأكبر، بطريقة سهلة ومبسطة استطاع من خلالها الكاتب أن يقدّم بن عربي ورحلته في عالم العشق الإلهي في زمن شبيه بزمننا هذا زمن شهد ضعف المسلمين وتكالب الغزاة على دولهم كما يحدث معنا اليوم بطريقة سهلة دون تعقيدات الفلسفة وصعوبة المفاهيم.
عندما تفتح الصفحة الأولى ستجد جملة بن عربي : ” إلهي .. ما أحببتك وحدي .. لكن أحببتك وحدك ” وعندما تكمل الرواية ستعود إلى الجملة الأولى التي صدّر بها الكاتب روايته، ستنتبه إلى أصل فكرة بن عربي في التصوّف، امن بن عربي بالحبّ دينا بل اعتبره أساس الوجود ، “الحبّ خلق والخلق حبّ“.
في زمنيين مختلفين تدور أحداث الرواية بين سيرة بن عربي، مولده في مرسية، هجرته إلى اشبيلية وترحاله في المغرب والأندلس والحجاز وأرض الشام ، وبين سيرة المخطوط المتخيل والمتضمن أسفار ورحلات بن عربي بقلمه منذ 1212 ميلادي إلى لحظة وقوعه بأيدي نازح سوري سنة 2012.
تبدأ الرواية بصفحة من المخطوط في أذربيجان 1212 وهو مخطوط تخيله الكاتب على لسان بن عربي، ثم يدخل الكاتب بنا إلى رحلة بن عربي في البرزخين أو توظيف مفهوم “الكشف” الهبة الإلهية التي منحها الله لأحبته وإحدى كراماتهم ” أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأوّل رأيت أمي وهي تلدني وفي الثاني رأيت ابني وهو يدفنني “.
ثم تتوالى صفحات الرواية في سرد الأحداث وأحوال الدنيا والمسلمين على لسان بن عربي من الصراعات بين الموحدين والمرابطين وحروب الغزاة ومعارك الحكام على السلطة وضعف المسلمين.
بين تونس والقاهرة ومكة والشام وبغداد وفاس وقونية، نسافر مع بن عربي في رحلته المتشعبة في عالم الحبّ، بدأت رحلته بالبحث عن الأوتاد الأربعة أي شيوخه الأربعة حسب المفهوم الصوفي في زمن شهد انقسامات المسلمين وتكالب الغزاة عليهم.
جنّب الحبّ شيخنا بن عربي من العمل في بلاط الحكام كما فعل والده سابقا في بلاط محمد بن سعد بن مردنيش وهو نفسه أي الحبّ جعله رفيق الشيوخ والصالحين منذ طفولته إلى أن أصبح الشيخ الأكبر في عالم التصوّف.
استطاع محمد حسن علوان أن يتنقل بنا في ثنايا حياة بن عربي وجوانبها الخفية، حبّه للناس وحبّه لفاطمة ابنته التي توفت وحبّه لنظام ابنة شيخه وأستاذه الفارسي زاهر بن رستم الأصبهاني والتي رفضت الاقتران به بعد أن طلب الزواج منها، إلى جانب رحلته في عالم التصوّف.
كما استطاع علوان أن يسلط الضوء على جزء مهم من التاريخ الإسلامي والذي يشبه إلى حدّ كبير أحداث القرن الواحد العشرين عن طريق شخصية بن عربي الهارب في أوّل الرواية من مرسية نحو اشبيلية إلى لحظة وصول المخطوط إلى نازح سوري يعيش ويلات الحرب والظلم من الداخل والخارج.
تشكل رواية موت صغير انزياحا جميلا عن عالمنا في الظاهر وانغماسا فيه في الباطن لقد استطاع الروائي أن يشدنا إلى بن عربي من الوهلة الأولى لننتبه فيما بعد : لم يتغير شيء مازال عالمنا منقسم ومازلنا ضعفاء ولكن هل سيضيء التصوّف القرن الواحد والعشرين كماء أضاء القرن الثالث عشر ميلادي … لن تخسر شيئا اقرأها واستمتع وابحث عن أسئلتك وأجوبتك بنفسك.