رواية "موتُ صغير" لمحمد حسن علوان
سبيكةٌ من شتى الفنون والأنواع
ناقد وأكاديمي فلسطيني
هذه الرواية سفر ضخم يقع فيما يقرب من ستمئة صفحة إلا قليلا وفي اثني عشر سفرا ومئة فصل، عابرة للتصنيف بين أنواع الرواية، فهي ليست بالتاريخية المحضة على الرغم من أنها منشغلة بالوقائع في جلّ وقائعها، وليست من روايات السيرة الذاتية مع أنها تروي قصة حياة علم من أعلام المتصوّفة الكبار على لسانه ومن خلال مخطوطة استغرقت حّيزا من الفضاء الروائي، حيث تم تتبّعها من بلد إلى آخر على مدار السياق السردي إلى أن وقعت في يد باحثة أجنبيّة تعدّ أطروحة للدكتوراة، وهي ليست بحثا علميّا مع أن كاتبها تقصّى أحداثها في مصادر عدّة ومراجع كثيرة، وهي ليست رواية تنهض على حقائق موثّقة ؛ فصاحبها يقرّ بأن ما توفّر من أخبار عن حياة بطلها ابن عربي قليل لا يشفي الغليل، وأن الرواية قد جهدت في سد الثغرات اجتهادا وعبر مخيال نشط، وهي ليست أدبا رحليا خالصا على الرغم من أنها في صلب وقائعها تعتمد على الرحلة وكاتبها يقتبس عتبات من أقوال بطلها تنبيء عن ولعه بالسفر، من مثل قوله “ السفر قنطرة إلى ذواتنا “ و“ السفر إذا لم يسفر لا يعول عليه” و“ الزمان مكان سائل والمكان زمان متجمد”، وهي ليست رواية مسرحية، علما بأن المشاهد الحواريّة تمثل صلب هذا العمل الروائي والصراع مع الأحياء والكائنات والطبيعة ديدن بطلها، وليس رواية واقعيّة تعكس أحوال الزمان والمكان على الرغم من أن الإسقاط التاريخي على الواقع لإضاءته وكشف أسراره لا تخفى على القاريء، وهي ليست أدبا صوفيّا خالصا في حين تبدولغتها بما تنطوي عليه من معان ترتحل في فضاءات الروح وتحلّق في آفاق التأمل مشحونة بالوجد ومعجمه الباطني وخمائرها الباطنية تربوبآفاقها التأويلي في أمداء واسعة والدلالة الغائبة سمة رئيسة من سمات خطاباتها الحواريّة، وهي ليست رواية فانتارية على الرغم من أنها تجتاز المسافة الشاسعة بين الوقائع المشاهدة والعوالم الخفية .
رواية (موت صغير) لمحمد حسن علوان التي فازت بجائزة البوكر عام 2017، تنطوي على كل ماذكرت، سبيكة انصهرت فيها هذه الأنواع جميعا تم الاحتفاء بها إعلاميّا ونقديا وأجريت حولها العديد من المقابلات مع الكاتب والقرّاء والنّقاد، وهذا كله – وفقا لتصور النقد – يدخل في إطار العتبات النصّية الخارجية فضلا عن العتبات النصية الداخلية التي تتمثل في العبارات المقتبسة من أقوال محيي الدين بن عربي متصدّرة مختلف الفصول وتنسجم تأويلا وترميزا مع مضامينها وتوميء إلى بنيتها الدلالية .
الفصول الأولى من الرواية تنسجم مع الفصول الأخيرة وتتسق معها ؛ فثمة هندسة بنائيّة تنهض على التوازي عبر مداميك تتراصّ في متواليات من الأحداث التي تتحدّر في يسر وتسلسل، وتبدأ الرواية من قوقعة الخلوة المكانية الضيقة التي يستهلّ بها الرواية، ثم تنفتّح على عوالم رحبة في رحلة شاقّة دؤوب تتشكّل فيها المحطّات المكانيّة عبر مفردات السرد وسياقاته في إيقاع يجمع بين السرعة والبطء، وتحتشد فيها عوالم زاخرة تنداح أمام الكاتب فيسلّط عدسته على تفاصيل شتّى تتعلق بالمكان والزمان والبشر والعمران والنخب والدهماء والثقافات والحضارات والمذاهب والطوائف والأجناس بحثا عن الأوتاد الأربعة فتبدوبحثاً في علم التصوف بطرائقه ومشائخه ودراسات أنثروبولوجية بلدانية جغرافية موثوقة،ورحلة ماديّة روحيّة نفسيّة اجتماعيّة، وهي إذ تضرب في أعماق الواقع توغل في الباطن بحثا عن( الأوتاد الأربعة) التي يقيم عليها سرادقه الروحي، يبدأ من حيث الصرخة الأولى (إعلان الوجود) تحقيقا لبشائر ومقدّمات حسّيّة يجري تأويلها، فالشامة التي تقع تحت العين اليسرى للأب هي مناط البشارة ومحور التأويل، فالابن يجري على غير نهج أبيه و( فاطمة ) حاملة البشرى هي صاحبة النبوءة ومصدر النبوءة بالرحلة الشاقّة التي استمرت على مدى خمسين عاما بحثا عن الأوتاد الأربعة، فكانت عبارتها (طهّر قلبك ) الديناموالمحرك لهذه الرحلة الممتدّة التي انتهت به من مغرب الأرض إلى مشرقها حيث استقرّ به المقام، أما آخر أوتاده (شمس التبريزي ) التي أحبّها ونظم فيها ديوانه ( ترجمان الأشواق) وحرم من الزواج منها لصالح الحب المطلق.
وإذا كانت ثنائية الروح والرغبة هي قوام حياته فهومولع بالنساء إلى الحد الذي تنبيء به عبارته (أعني محيي الدين بن عربي ) “كل مكان لا يؤنّث لا يعوّل عليه “ وهومنصرف إلى الحب الروحي الذي يعد موتا صغيرا، هذه الثنائية الأم هي التي تفرخ سلسلة الثنائيات في الرواية : صديقه المتصوف الغارق في عالم الروح المسكون بالشهوة حد الولع بجمال الفتيان وولداه عماد الدين رمز للشقاوة والعبث والآخر رمز التقى والورع.
في الفصول الأخيرة تتضح معالم الرؤيا عبر مأ أفضت به الطالبة الفرنسية التي اختارت محيي الدين بن عربي موضوعا لأطروحتها العلمية واستطاعت أن تظفر بالمخطوط الذي يتضمن سيرته من الفتى الدمشقي الذي كان أخوه بهاء الدين يحتفظ به ضمن أوراقة مقابل ألفي دولار وأجرت معه تحقيقا دؤوبا وشاقّا حول هذا المخطوط،للتتأكد من أن المخطوط الأصلي هوضالتها التي تبحث عنه، والشاب الذي كان حريصا على إبراء ذمة أخيه حين أنكر معرفته بحقيقة الأمر، وقد انتهى المطاف بهذه الباحثة إلى اعتناق الإسلام يقينا وانبهارا بطريقة الشيخ وسيرته.
الرواية – وإن بدت شبكة متناسجة الخيوط من مختلف الفنون والأنواع – فإن صلب البنية التي تتشكل عبرها يتسق مع أدب الرحلة، إذ صور الكاتب رحلته من الأندلس في أقصى الغرب إلى أذربيجان في أقصى الشرق، فقضى حياته باحثا عن( طهارة القلب) رحلة مزدوجة من التنقل المكاني من مدينة إلى أخرى ومن صقع إلى آخر من ناحية والبحث الروحي عن النقاء والطهر الذي دعته إليه (فاطمة) من ناحية أخرى، هذه الجديلة الثنائية تقابلها ثنائية البحث عن أوتاده الأربعة وااللقاء بأعلام المتصوفة، ثم التعرف على سير الأحداث التاريخية وصنّاعها في مسارين متوازيين ومتقاطعين أحيانا مكاني وزماني، وثنائية السرد السيري الذي اجتهد الكاتب فيه باحثا عن محطات حياة ابن عربي في حلّه وترحاله الذي امتد على ما يقرب من خمسين عاما قضاها في البحث عن ضالته وهويتنقل من صقع إلى آخر يذرع البلاد من غربها إلى شرقها إلى أن انتهى به المطاف إلى حيث وهن منه العظم واشتعل رأسه شيبا وبهتت معالم الذاكرة واشتدت عليه آلام المفاصل، وبعث إليه الموت عشرات الرسائل( كما ورد على لسانه) في الرواية وتغلغل إلى مكامن الخلل في النفس البشرية مهما صلحت أعمالها وعذبت أقوالها كما نستشفّ من وصيته لابنه صدر الدين حين نوّه إلى أن الشيخ الكرماني الذي سيتعهده بالتعليم مفتون بجمال الشباب ما أذهل الصبي فعاجله بإبداء دهشته ؛ بل صدمته، ولعل عتبة الفصل الذي عنونه ب (السفر الأخير) ممثلة في مقولة له “التصوّف بغير خلق لا يعوّل عليه” لقد اكتمل تشكيل الرؤيا في نهاية الرواية حين تكاثفت الخطوب واشتدّت على بطلها محيي الدين بن عربي على المستوى اخاص والعالم في ثنائية وجودية هزّت كيانه في إسقاط واضح للأزمة التي يعيشها الواقع الراهن، فهاهوابنه عماد الدين الشقيّ يشغب عليه ويهزّ هيبته أمام تلامذته حين يشتبك مع تلك الطائفة من ( البهاليل ) الذين يعيشون على هامش مجتمعه، يمثلهم البهلول (يعقوب) الذي يتهدّد ابنه ويتوعّده في حضرته، وكان أن انتهى عماد الدين إلى الانكسار حين عوقب بالفلفل الحار في مؤخرته فانكسر واعتزل، وهذه النهاية لها دلالتها حين تقترن بما انتهت إليه الأحوال زمن السلطان الكامل الذي فرّط بإرث صلاح الدين، وما شجر من خصام بينه وبين ابن أخيه الناصر الذي التقى به محيي الدين ودار بينهما حوار له دلالة تاريخية عميقة .
ليس هذا فحسب ؛ بل إن ما وصل إليه محيي الدين من فاقة اضطرته إلى أن يعمل أجيرا في حقل وقد بلغ السبعين وخارت قواه، ثم ما حدث له من سقوط وعذاب في غمرة الاحتجاج الشعبي حين بلغ الكرب منتهاه، حيث أفضى به ذلك إلى الموت الذي وصفه في تخطٍ لمنطق الحياة اتساقا مع رؤى التصوف التي تتجاوز المعقول والمقبول في فانتازيا عرفانية ذهب فيها بعيدا متجاوزا الحواجز المادية محلّقا في آفاق الخيال والوهم .
الحب هوالضالة المنشودة :
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
ولكن الحب المنشود يشق طريقه في بحر متلاطم من الفتن والحروب التي رصدها السارد على لسانه في البرتغال وتونس ومالطة وفي عهد الأيوبين والسلاجقة والمرابطين والموحدين، وما صادف رحلته الشاقة من أحداث تاريخية كبرى : تدمير هولاكولحلب وفي زمن الظاهر بيبرس والامبراطورية العثمانية. وفي موازاة ذلك تأتي سردية أخرى تتعلق بالمخطوطة التي دون فيها محيي الدين بن عربي سيرته بخط يده فتتبع مسيرتها في انتقالها من مدينة إلى أخرى فخصها بجملة من الفصول عبر تنقلها في اثني عشر فصلا
“ينطبق عليّ قماش الكفن فيحجب عني الرؤية، يرتج جسدي على أكتاف الحاملين،يسكن أخيرا في محراب المسجد يرتفع الأذان يصلي الإمام …إلخ) ص591
إن ما انتهى إليه بعد هذه الرحلة الطويلة له دلالته حيث اكتملت ملامح الرؤية : الرحلة الطويلة بكل محطاتها تنتهي إلى حصاد مر : وهن على وهن وغياب بلا إياب، وخيبة وخواء، ومشاهد\ تلوأخرى تفضح وتعرّي وتكشف عن دخائل النفس .
هذه المنظومة الحوارية السردية الوصفية التي تتشكّل عبر الرواية في لغة مخصوصة ذات منحى متميّز في المعمار والتشكيل والصياغة، فعلى مستوى المعمار تتجاور ثنائية المخطوط المتخيّل والسيرة المسرودة، والحبكة الخيطية والاستشرافات العرفانيّة، وعلى مستوى التشكيل تحتشد الرسالة بعالم متعدّد الأشكال والأجناس والرؤى من الخاصة والدهماء والأوتاد والأنصار : شخصيات متعددة في عوالم شتى وأمكنة متفاوتة متباعدة متقاربة ومشاهد يسكنها الحوار الذي يسدر بعيدا في عوالم التأويل ويقارب أفق الصراع في الباطن وفي الظاهر، وآخر يتدانى إلى توافه الأمور وإدارة تفاصيل يوميات الحياة،وأماكن مغلقة لاتتّسع إلّا لطائفة محدودة من التلاميذ والأتباع وتلاوة الأوراد والخلوات، وأخرى تنفسح على اتساع الفيافي والقفار وعوالم الحياة والأحياء، أزمان فسيحة تستوعب المنعطفات الكبرى والأحداث العظمى وأخرى تضيق عن صغائر المشاغل وإدارة شؤون الحياة، ورؤى تنداح في فضاءات بلا نهاية وأخرى تنحصر في سبل العيش وتوفير ما يقيم الأود، أحداث كبرى تشتعل فتنا وعنفا لاواحتجاجا وأخرى تنحصر في لقاءات عابرة وقضاء أوطار طارئة.
أصوات تتعدّد وتتنوّع ولغات تتشعّب : لغة آمرة، وأخرى متمرّ!دة على أحادية الرؤية ومونولوجية الحديث.
عالم خصيب وفضاء رحيب، صانع ماهر وفنّان موهوب.