القندس
القندس، رواية فاجأتني باكتشاف كاتب روائي سعودي شاب موهوب فعلا وأمل واعد بمستقبل زاهر للرواية الخليجية، وللأسف لم يسبق لي قراءة أي من رواياته الثلاث السابقة التي أتمنى أن يرسلها لي حتى أطلع على سير ونمو موهبته لأن «القندس» هي روايته الأخيرة، وهي ذات مستوي ناضج جدا وكتابة متمكنة من أدواتها بالكامل، وهي الرواية الثانية التي قرأتها من القائمة القصيرة لجائزة البوكر لهذا العام، وكوني لم أطلع على باقي روايات القائمة القصيرة إلى الآن فلن أستطيع أن أحكم برأيي الخاص بي على الباقي منها، لكن رواية القندس تستحق بجدارة الحصول على جائزة البوكر العربية، وحين نقول العربية أي إنها لا تقاس بجدارة البوكر العالمية التي يتم فيها الاختيار بمعايير تميز أعلى وأكثر صرامة ونزاهة.
ما يميز هذه الرواية هو العمق الروحي للكاتب، فرغم أنه شاب فإن له قدرة كبيرة على التأمل والتحليل والغوص في أعماق الشخصية التي يكتبها ويعكسها بلغة عميقة متأملة ومحللة للحدث ولكينونة شخصيته وطريقة تفكيرها وسلوكها في حياتها، وهذا العمق الروحي للكاتب هو الذي منح الرواية قيمة إبداعية، لأن الرواية خالية من التقنيات الحداثية المعقدة التركيب والصعبة، كما انها خالية من شبكة الأصوات واللعب بتقنياتها ذات المستوى العالي، فالرواية كلها بصوت راو واحد يحكي نيابة عن كل الشخصيات التي يتعامل معها بطل الرواية، وهذا أسهل أسلوب في كتابة الرواية، كما أن الرواية تتناول قصة حياة شاب محبط غير محبوب لا من أسرته ولا من عشيقته، إنسان تعدى الأربعين من عمره ولم ينجز أي شيء في حياته غير الفشل، فهو يعيش بلا هدف وليس لديه أي مشروع حياتي أو مخطط لأي مستقبل كان، فهاجر إلى ولاية بورتلاند ليعيش فيها حياة مستوحدة خالية من الأحلام والأهداف، إلا من التأمل الذي راجع به حياته السابقة والحالية والمستقبلية على ضفاف نهر ويلامت، حيث أخذ يراقب قندس النهر ويقارن ما بينه وبين أفراد أسرته من تشابه، وينتقل بهذه المقارنات ما بين مدينتي الرياض وبورتلاند وشكل حياته ما بين الاثنتين في كتابة تنقل تفاصيل وتعابير شخصياته بعمق رهيب يجعل القارئ يكاد يلمسها ويعيش معها.
الرواية بحد ذاتها لا تحمل أي تعقيد في الأحداث ولا في تشعب تفاصيلها ولا لديها تقنيات صعبة أو غير عادية، رواية تحمل حكاية بسيطة لشاب بلا طموح وبلا أهداف أو حياة مركبة، إذاً ما الذي منحها كل هذا التميز والقوة؟
السر يكمن بقدرتها غير العادية في عكس الأفكار والمعاني التأملية التحليلية الوجودية بتشريح عميق ينفذ إلى قلب الشخصية، وحكاية الحدث في بوح مسترسل ساخر عجيب، لا صنعة ولا تصنع فيه ولا تكلف أو ترهل أو فضفضة بلا معنى، رواية مكتنزة ومقتصدة بلغتها الغنية والعميقة في دلالات المعنى وجدة تحليله، لدرجة تشد القارئ إلى كل جملة فيها، فهذه رواية ممتعة بالفعل تستولي على قلب قارئها، وفيها جمل كثيرة أعدت قراءتها للتمتع بمذاقها، وهناك شخصيات شعرت أني قد قابلتها من قبل فهي خرجت من الكتابة والورق، لذا سأنقل بعضا من جمله الرائعة التي ولدها كاتب شاب تسكنه روح وجودية فلسفية عميقة وهي ما تنقص الكتاب الشباب عادة.
«حاولت أن تجعلني أرقص فاعتذرت بكاحلي الملتوي وقلبي الذي يكاد يتقيأها خارجه. أخيرا هجعت إلى جواري مثل كومة ذنوب وراحت تستعد للنوم معي في السرير هذه المرة. لم أنم قط».
«الأربعون تغلق أبواب الاعتياد وتطرد من مفاصلنا آخر قطرات المرونة، لا يمكن العيش مع امرأة حد الالتصاق ولن يخرج من صدري طائر الوحشة الأعمى ولو أشعلت من حوله كل مصابيح العالم».
«راحت تمشي فوق السرير وهي تضحك بخفة، أبديت اندهاشا وإعجابا مصطنعين بينما سجد في داخلي رجل أشيب شاكرا الله على رحيلها القريب».
«الذين نلتقيهم ونحن نشق الأربعين ما كانوا ليأتمنونا على نفس الحكايات الكثيفة لو لمحوا في وجوهنا نزق العشرين وعجلتها».
«لا شيء يجمع بيننا نحن الإخوة المنفرطين من رحمين، عندما شعر أبي بذلك قرر أن يطلينا بالصمغ ويلصق بعضنا ببعض كيفما اتفق، حتى نبقى معا ولو قلوبنا شتى».