arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في القندس

صحيفة الأهرام المصرية

القنــدس

محمد مصطفى الخياط

كاتب مصري

جذبتني بساطة محمد حسن علوان وحسه الحكواتي في روايته‏ (‏القندس‏),‏ يبدأ من ملاحظة عابرة ثم يستطرد منها إلي ذكريات ومفارقات‏,‏ تتداعي المشاهد كرذاذ المطر خفيفاً لذيذا‏ً. ستارة رقيقة لا ينضب معينها. هادئاً من دون صخب. لا برق ولا رعد, فقط قطرات تغسل النفوس والطرقات والمباني, ثم يرحل في هدوء مفسحاً المدى للشمس تتمطع فيه بطولها وعرضها فتستعيد نشاطها.

خدعني علوان, فمن أول سطر وأنا أبحث عن النقطة التي تنفصل فيها قدرته علي استجرار المشاهد والمواقف وانتزاع الإعجاب. قلت ربما هي صفحات معدودات ثابر وصبر علي كتابتها وسرعان ما ينكشف بعدها نمط سرده الحقيقي, لكنه راوغني وظل محافظا علي مستوي جاذبيته حتي آخر جملة في الرواية. تركني في غيي وراح يلضم خيط السرد في إبرة حياكته القصصية, خيطا بعد خيط حتي نسج روايته. سرسوب حكي رائق إلا من بضع فقرات هنا وهناك, لكم تمنيت لو أنه حذفها قبل إرسال نسخته النهائية إلي المطبعة.

لم أقرأ رواية لكاتب سعودي من قبل, وبالتالي بدأ حديثه جديدا ومباغتا بمستوي البوح الهادئ والتفاصيل المتشابكة. من زاوية السرد الذاتي يحكي غالب الوجيزي, بطل الرواية, عن نشأته في أسرة مفككة, أم حادة الطباع طلقت وتزوجت بآخر, وزوجة أب تحسن معاملته. فقده الرابط الاجتماعي مع محيطه العائلي. سفره للدراسة في بورت لاند بأمريكا وعودته بلا شهادة. إدارته لحصته من مال أبيه في سوق الأسهم. عودته للإقامة في أمريكا أملا في ترميم نفسه المحطمة. الاستيقاظ بلا هدف. جلسته علي ضفة نهر ويلامت وتأمله حيوان القندس, بجسده المترهل وأسنانه البارزة, فيربط بينه وبين أفراد عائلته محولا كل منهم إلي قندس بشري. يمتد فيض السرد إلي تفاصيل الحياة العامة بالسعودية. الروابط العائلية. مكانة المرأة واهتماماتها. التدين. العلاقات الأسرية. الأصدقاء. السفر. الزواج. الطلاق. مشاعر الأخوة الأشقاء وغير الأشقاء.

هناك أعمال لا تستطيع أن تكملها فتلقيها جانبا وتنسي الكتاب والكاتب, وأخري تصنفها في الما بين, تتساوي إيجابياتها مع سلبياتها. وأعمال أخري من فرط عذوبتها وجمالها تتمني أنك لم تقرأها بعد, وهو ما ينطبق علي كتابات علوان. تستشعر أنك قد انتهيت من قطعة حلوي دمشقية سقاها الحلواني بشراب اللوز الصافي المخلوط بقطرات ماء الورد البلدي ناثرا فوقها فتافيت الفستق الحلبي الأخضر, يتمدد عسلها في كسل علي طبق شاهق البياض, يقدمها بابتسامة أطعم من حلواه. يتلقفها فمك في نهم, ما إن تزدرد قضمة حتي يصرخ طالبا المزيد حتي تنتهي. حينها, تبحث في زوايا فمك عن كل فتفوتة ضلت طريقها إلي حلقك نحو خلاياك المتلهفة, تمصمص شفاهك وتكحت أثر الحلوي بأسنانك من علي أعتاب فمك, وعندما تنتهي من مراسمك وتعاين عيناك صدمة الطبق الخالي إلا من شوكة وسكين ملطختين بأثر صنيعك, تتمني أنك لم تكن قد تناولت حلواك بعد, وأن ما عشته من متعة أثناء الأكل قد تأخر قليلا, تحاصرك المحاذير الطبية من معاودة الطلب وتشد أذنيك بأنك قد تجاوزت الحد حين تناولت القطعة كاملة.

في هذه الزاوية الجميلة تقع رواية القندس, إلا أن معاودة الطلب أمر محمود في عالم القراءة, فها أنت تفر الصفحات, تتذكر الوقفات والمشاهد, ثم تغلق الكتاب في حبور وتمد يدك إلي رواية جديدة لنفس المؤلف بعنوان موت صغير يقص فيها سيرة مولانا محيي الدين بن عربي, ممنيا نفسك بمعرض حلويات فريد الطراز.