القندس: جدران عازلة!
السؤال الذي يقفز بقوة بعد قراءة الرواية: ”ماذا يريد علوان قوله في رواية القندس، وما الرسالة التي يود إيصالها إلى القارئ؟“
وهذا السؤال، وغيره من الأسئلة، تولدت من رحم سرد لم ينجح في إقناع القارئ. والكاتب لم يتمكن –كما أرى- من تبليغ رسالته من كتابة الرواية، إن كان ثمة رسالة. ولم يأت بجديد وهو يتحدث عن التفكك الأسري، وسلبية الشخصية الرئيسة “غالب”، وبرود العلاقات الاجتماعية، وخاصة في مجتمع ما بعد طفرة النفط، التي طغت بسوادها على صفاء القلوب وطهارتها.
ليس مطلوباً من الكاتب أن يجيب على أسئلة، أو يقدم حلولاً للمشكلات، فهو ليس طبيباً نفسياً أو مصلحاً اجتماعياً، ولكنه في المقابل لا يُقبل منه أن يقدم تصويراً فوتوغرافياً أو نفسياً لبعض الشخصيات، معتمداً على وجهة نظر أحادية لشخصية واحدة هي شخصية ”غالب“؛ الكهل العازب، المضطرب، العاطل عن العمل، الفاشل دراسياً، مقطوع الصلات مع أسرته، الهارب إلى أميركا؛ ليبحث عن حياة أخرى أضاعها في الرياض، فأضاع العمر بين عالمين دون أن يظفر إلا بالفتات، إرث ضئيل من والده، وعلاقة باهتة فقدت مقوماتها وبريقها مع ”غادة“.
رواية ”القندس“ هي الرابعة للروائي السعودي محمد حسن علوان، صدرت عن دار الساقي في طبعتها الأولى 2011، توزعت إلى 40 فصلا، على امتداد 319 صفحة من القطع المتوسط.
”القندس“ عنوان ملفت لرواية، خاصة وأن هذا الحيوان لا وجود له في البلاد العربية، وإذا علمنا أنه نهري تمت المفارقة، فلا أنهار في الرياض أو غيرها من المدن السعودية. ومن خلال السرد الجميل الذي لا يخلو من روح شعرية هنا وهناك، ندرك أن الراوي العليم ”غالب“ يقارن بين ”القندس“ وطباعه، وخاصة بناء السدود، وحفر الأنفاق، وبين أسرته في الرياض، التي بنت حولها وبينها سدوداً كثيرة على غير صعيد. وهي مقارنة قد نتفق أو نختلف معها، ولكنها مقبولة إن أخذنا بوجهة نظر ”غالب“ على الأقل.
يتهم ”غالب“ أهله الذين يتألفون من والده ووالدته وأخواته وأخوه وعمته وزوجه والده أنهم كالقنادس، يقيمون السدود والدهاليز بينه وبينهم، وفيما بينهم، وبينهم وبين الآخرين. ولكن “غالب” الذي يمثل دور الضحية نسي أنه ”قندس“ شرس كبير، فهو أكثرهم سفراً واطلاعاً، وكان يفترض فيه أن يهدم السدود لا أن يعلي جدرانها، ويغلق الأنفاق، لا أن يوسع مداخلها. بل إنه أتقن بناء جدران عازلة بينه وبين الآخرين، وثقب الجدار أحياناً إن وجد له مصلحة شخصية مؤكدة، ثم يعيد ترميم الجدار من جديد. لقد استمتع بالقندسة، ليستريح من تحمل المسؤولية، والهروب من تبعات دوره كأخ أكبر، بأن يكون نقطة التقاء وتجمع للأسرة، بدلاً من أن يعيش على هامشها، كأي غريب لا صلة له بالأسرة من قريب أو بعيد. لقد حُرم أن يكون ابناً باراً، أو أخاً حنوناً، أو صديقاً مخلصاً، أو حتى حبيباً مضحياً.
لعب ”غالب“ دور الضحية بامتياز، ويعلل خيبته وضياعه؛ بأن حُرم من حليب الأم التي تخلت عنه فور ولادته، وتركت البيت لتتزوج آخر، وانشغل عنه والده بزوجته وأولاده وتجارته، وأخواته لم يحترمنه كأخ أكبر. وكأنه استمتع بهذا الدور ليبرر فشله في الحياة من حيث الدراسة والعمل وحتى العلاقات السوية، وانقاد خلف علاقات شاذة، ومن ثم علاقة سرية مع ”غادة“ المتزوجة، فاتخذها صديقة لعشرين عاماً، يلتقيان بين حين وآخر في جدة أو الرياض أو مدن أوروبا وأخيراً مدينة بورتلاند في الشمال الأميركي. علاقة بدت غير مقنعة، وغير مهضومة، وكان خاتمتها لقاء طال أكثر من اللازم، فانكشفت العواطف، وبطل السحر، وانطفأت جذوة لم تكن إلا نزوة بتواطئ الطرفين، أما الحب فلم يكن في وارد أي منهما.
رُسم ”غالب“ شخصية سلبية جداً، بشكل منفر، فلا موقف جدي له في الحياة، ولا دراسة، ولا عمل أو هدف يسعى إلى تحقيقه، بل كل همه حاجات يشبعها، وأسماها أن ينام مع فتاة من برج مختلف كل شهر. وفضل أن يبقى عازباً، ليستمتع بحريته بعيداً عن قيود الزواج ومشكلاته، وربما تحسب له هذه الإيجابية الوحيدة كي لا يُعقب من نسله من يُعيد سيرته!
وشجعه على هذه الحياة الفارغة الباهتة رصيد مالي وافر في البنك، يكفيه –حسب تقديره- فترة طويلة دون أن يعمل. بالإضافة إلى ذلك فإن ”غالب“ شخصية انتهازية؛ فقد استغل مشاعر عمته ”فاطمة“ ومعاناتها، فلعب على وتر عاطفي حساس، واستثمر طيبة ”ثابت“ وحاجته لمن يفضفض له، من أجل استلال مادة منهما لبحث التخرج الذي لم يكتمل.
ولعل سلبية ”غالب“ وعيوبه، مردها شخصيته المضطربة غير السوية، وتوفر المال بين يديه، وانشغال والديه عنه، فالأم لا يعنيها ”غالب“ بعد أن تزوجت رجلاً آخر، والوالد مشغول بتجارته في السجاد، ومن ثم العقارات. ولكن كل هذه الأسباب قد تُقبل من فتى مراهق، لا من كهل ناهز الأربعين، وما زال يعيش عالة على والده، دون أن يقدم أو ينجز في حياته ما يستحق الإشادة أو التقدير.
نجح ”محمد حسن علوان“ في رسم شخصية ”غالب“ السلبية الفقيرة معرفياً واجتماعياً وعاطفياً، وما يوازيها من تفكك أسري في ظل طفرة نفطية ومالية أثرت على كثير من القيم. ولكنه لم يترك لنا بصيص أمل، بل زاد الطين بلة بكشف حقيقة العلاقة بين ”غالب“ و”غادة“، وإرث متواضع كان صدمة للجميع وعلى الأخص ”سليمان“ الأخ غير الشقيق لـ”غالب“. فيتركنا في حيرة واضطراب، نتساءل: وماذا بعد؟!
وظف الكاتب تقنية التناوب بين عالمين؛ ففصل في بورتلاند، وفصل في الرياض، مظهراً تناقض العالمين في جوانب، وتشابههما في جوانب أخرى، وأظنه لم يوفق كثيراً في هذا الجانب، فالتناقض بدا ظاهرياً شكلياً وليس حضارياً، فلم يشتغل إطلاقاً على أي جانب أمريكي في التعليم أو الصحة أو العلاقات الأسرية أو الخدمات، واكتفى بالقندس شاهده الوحيد، وكأن امريكا قندس كبير فحسب.
لم يوفق الكاتب أيضاً في المحافظة على اهتمام القارئ وتشويقه؛ إذ لم تخل الرواية من إملال هنا وهناك، على الرغم من اللغة الجميلة الغنية، فالرواية بدت كسيرة ذاتية وبوح لغالب وما يتعلق به من أحداث، وما ارتبط به من شخصيات، فهي رواية منغلقة تدور ضمن دائرة محدودة، كما القندس يعيش في منطقة محدودة وضع حدودها ولم يتخطاها.
وبعد، فرواية ”القندس“، تحسب في رصيد كاتبها الشاب، وتجربته المتصاعدة، وتبشر بمستقبل حافل لروائي متميز. ولكن عند مقارنتها ببعض الروايات التي استبعدت من القائمة القصيرة لجائزة البوكر، فإنها أقل مستوى وجودة، وأظن أنها احتلت موقعاً أكبر مما تستحق، لاعتبارات أخرى غير إبداعية بالتأكيد.