صحيفة الرياض السعودية
في رواية ”طوق الطهارة“
الغرام عمل افتراضي، والنساء مقشّات
روائية عراقية
1
لم أعد أتذكر من قالت/قال ما معناه: بقدر ما تعرض عن التشبيهات، وتخلو نصوصك ومؤلفاتك منها، بقدر ما تحاول ذلك، ينال كتابك على الإعجاب والرضا. رواية طوق الطهارة للكاتب والصحافي السعودي محمد حسن علوان، لا تتلعثم أبدا أمام التشبيهات بصورة لا تنتهي إلى الصفحة الأخيرة من الرواية: ”مشركا كالرسامين، صرت مثل الاسترالي الأصلي، أحزاني تشبه ساحلا ملوثا بالزيت، مثل علاقة ملابس مهملة، مثل قط ضرير، اللحظات معها فاخرة مثل السياحة، الأيام ثمينة كأنها متحف، أنيقة كأنها فندق، وسعيدة كأنها ساحل“ الخ… هذا قدر جد بسيط مما استوقفني من التشابيه، كما أن هناك بعض الاستعمالات اللغوية، من الجائز أن المؤلف يفضل ترديدها وتكرارها لهدف ما لم أستطع التوصل إليه: ”ذات جزع، طقطقة الحنين، قطّاع الأمل“. أما المدينة، العاصمة الرياض، فقد بدت مدينة عصابية وهي تتوسع، والكاتب يدرك ذلك ويلعب معها أحيانا لعبة الفنان الذي يعرف أدواته، أو المريض النفسي الذي لا يخبىء علته، ولا يتظاهر برفضها، فكان يأخذنا إلى نقطة ما للمعاينة، ويتوخى الدقة بسبب المرض النفسي بالذات، الذي يعتمد دائما على ضبط المعيش عبر اللاوعي، ومادامت المدينة، الرياض كما يسميها الكاتب ”صعبة وخاطئة“ فيفهم القارىء، وللحال هذا الإسراف في التشبيه لعاصمة عربية تريد النهوض فعلا وقولا وعملا، وببطء وهدوء قد لا يلائم سرعة الروايات السعودية المكتوبة في العشر سنين الأخيرة.
2
”إن المحرض الأكبر على الكتابة بعد الحب، هو استعصاء الفهم، وليس وفرته“ لكن حزن الراوي حسان، الشخصية المركزية، والمتردد على مزرعة تدعى الدرعية للقاء ببعض الأصحاب، ومنهم طبيبه النفسي، الذي تحول بعد صفحات ولقاءات في العيادة إلى صديق، وحسنا توقف العلاج، فمن الناحية العلمية لا تجوز الصداقات بين المرضى والأطباء النفسيين. العلاقة الغرامية التي تتم عن طريق النت، وبعد كذا عام على إثارتها وانفجارها في أجيال عربية وإسلامية وعالمية، تبدو اليوم علاقة كهذه نوعا من الكليشيه، وهي لا تحمل مكرا بالمعنى الإبداعي. دائما أشعر بنوع من استحالة تلخيص العمل الروائي، فقصة الحب في هذه الرواية مبعثرة فنيا ونفسيا. حسان الراوي تبدو عليه أعراض مرضه النفسي بسبب الغرام، أو عواقبه في مكان، أو مدينة كالرياض. المغرم يمرض، والعاشق ينتقم من محبوبته بالكتابة عنها في معرض محاكمة للمدينة، لكن علوان يقلب الحدث فيدع المغرمة الموجوعة هي التي تلملم الرسائل والنصوص الالكترونية وتحولها إلى كتاب. هذه العاشقة، الزوجة السابقة يقول عنها زوجها السابق ما يلي: ”أظن أنها ظلت تمشي وراء بطارقها حتى سقطت وراءها في الماء، ولم يحتمل وزان عقلها المبلول فانفصلا بعد شهرين“ هي والراوي حسان يتزوجان، ولكن بسبب وليدها الوحيد الذي لم يوافق الزوج السابق على العيش مع زوج الأم الجديد، الذي يتم التهديد به، يتم الطلاق من الراوي أيضا. بدا الانفصال مقنعا لغويا أكثر منه اجتماعيا وواقعيا: ”يوثق قصة الحب المكسورة هذه في مدينة لا تعرف القراءة“. ”اعترف أن جميع النساء اللواتي تعرفت إليهن بعد جورية وغالية، وأمعنت في الاتصال بهن، لم يكن إلا مقشّات قوية متعاقبة تكنس بقية الركام الذي تركناه عليّ، ولم تفلح في كنسه أي كتابة عشوائية فعلتها على ألم أو أي طبيب نفسي“.
3
رجل وكتاب، وحبيبة تجمعه، وتطبعه، وتعيده إليه من بيروت. رجل وكتاب داخل سيارة، وهي العاشقة غالية، وهذا الكتاب، هو كتاب حقيقي، ولم يعد بمقدور كاتب المدونات الالكترونية التلاعب بالرسائل حين كان يجلس ساعات طويلة أمام شاشة الحاسوب المحمول لكي يسجل عليه بعض الوقائع والسرديات الخ. الكتاب المطبوع كان احد أشكال الحداثة العصرية، وحين يلمسه الراوي حسان نشعر معه بشيء من الأسى، حين ينزع الكتاب المطبوع كل ذاك الزهو بانتصار مصطلح ما بعد الحداثة الفاتر عربيا، وعلى الخصوص في الغرام الالكتروني، والتلصص الافتراضي. لقد تم تجاور حسان وغالية عبر الرسائل، مجاورة قد تبدو سطحية ونافرة رغم سخونتها، لكنها كانت تحاول تفجير حقبة ما بعد الحداثي في مدينة كالرياض، تتجاور فيها جميع أنواع الحداثة والعصرية بجوار المعارف التقليدية، والخرافية، والشعبوية الخ. لم أستطع قراءة طوق الطهارة، وكنت أتوق لو غيّر العنوان هو، أو دار النشر الساقي وبطبعته الثانية هذه، فهو عنوان لا يحمل اللبس، ولا ينتظر منه التأويل لأنه مقفل تماما. في مزرعة الدرعية يبدو مصطلح التجاور الساطع في ما بعد الحداثة ساطعا، مكان تعيش فيه كائنات تتجاور ولا تتآلف، الخادم، الطبيب، المهندس، والمريض. احدهم درس في أرقى الجامعات الأمريكية وها هو أمامنا يريد أو يحاول تطبيق آخر مستحدثات العلم ما بعد حداثي في لقطات قريبة وبعيدة، فتبدو الرياض كمدينة افتراضية، وكذلك أشخاص الرواية. قصص الغرام تتجاور ولا تتلاقى، وإذا ما تلاقت فهي تحمل بذرة خرابها الصاعق. الحب في الرواية السعودية ومنذ نشوء هذه النهضة في العمران والتعليم، سوق العمل وظهور المرأة، لا كنوع من الوشاية والموضوع الجنسي فقط، وانما في جميع الفنون والتجارة والتسويق والجامعات والأزياء وصناعة السينما، وفي الإخراج الخ ينبغي تعريفه بتفوق الأفراد كهدف لتفوق النهضة في باقي مرافق الدولة. فداخل هذه الرواية متجاورات تستحق الوقوف أمامها؛ النت الذي يقطع كل صلة بالواقع، والواقع الذي كان يحاول أن يصوغه الروائي بالتشبيهات لأنه على ما أظن لم يقدر على مجاراته بعد: ”حافة المدينة، المدينة المغرورة، عيشة القرية، في الرياض الجافة والموحشة، كان المجد للقرية، محاولا أن أتصالح مع المدينة في لحظات ضعفها وبكائها“.
4
الكسل اللذيذ، ونوم الضحى للراوي. الاسترخاء الذي يتكرر في ليل المدينة. هذا الليل هو مدينة ثانية سرية، ودائما هي مزدوجة، والراوي يمشطها في كثير من الأحيان بعربته، ورغم ان بعضنا يخيفه الليل، فالنهار يخيف الأغلبية . الراوي قليل الاختلاط، أو هو يخشاه، ففي مثل هذه المدينة يسبب الرعب، ومن هنا يذهب إلى النت. يتضايق جدا من الاستيقاظ الصباحي، ونشعر بسأمه فيكتب بقدر من الملل في صفحات كثيرة، وهو ابن مطيع للوالدين، لا يتلاعب حتى بالحلم بدحر الأب فنيا أو افتراضيا، فهو أخلاقي بصورة مضبوطة، فيبدو زائفا بعض الشيء. السرير مكان عاطفي، والنوم في الرواية كثير، مجازي وحقيقي، وتشوهات الطفولة تسبب الفزع في التحرشات والجروح التي تتركها في نسيج العمل وبين ضلوع الراوي. الكاتب علوان سنه أقل من التاسعة والثلاثين، فهو أحد الفائزين بجائزة بيروت 39 إياها. يبدو النت حجة الحب، أو ذريعة الكتابة عنه، ومن هنا تبدو خطورة العالم الافتراضي أقوى وأخطر من الواقع بجميع تفاصيله التافهة والزائفة أيضا، بمعنى؛ إن الذين نعيش معهم في علاقات حقيقية، وفعلية، معاشة بصورة جهيرة في شراكة الزواج، وورطة الغرام، في الصداقة والمعاشرة اليومية، في الصحبة ورفاقية المهنة، والطريق الخ. يبدون في أحد الأيام بأنهم قدموا من لا مكان، أو من مكان لم نعد نعرفه، بعيد، وموحش، ولم نتلق أية علامات أو إشارات منهم عليه، فتبدو العلاقة معهم شبه عماء، ثم تدخل في الموت التام . وحين نستحضر الأسماء والصداقات في الذاكرة، نكتشف أن كل شيء في هذا الوجود يخضع للسجال، ويجر للشطط، ويخادع بالتجاور، لكن ليس بالضرورة بالالتحام والاحتواء، بالعناق واللقاء الحميمي، فكيف بعلاقات الغرام الافتراضية؟
***
محمد حسن علوان لم أعرف سنه الحقيقي، ولكن كل هذه الأجيال ما بين المراهقة وإلى سنه وأكثر، تبدو هذه العلاقات المتجاورة في النت وفي أحسن الأحوال، إنها علاقات مكلفة، وربما خبيثة جدا، وعبئها لا يحتمل فيما بعد فهي تحمل وزر الوهم القاتل، وتفاهة الواقع المزري، ما بين الحب واستعجاله، وبين الشخص الواهم والموهوم محولا الواقع الأرضي إلى مجرد تقليد، وغير متقن أيضا للواقع . أعرف بعض الأشخاص من الرجال والنساء تجاوزن سن علوان بعقد أو عقدين، وربما أكثر، صار النت بالنسبة لهم/ لهن هو الحقبة النهائية من استعجال الشغف حتى لو كان وهما سافرا، والوقوع في فخ الحماس والحرارة والرغبات المتأججة التي، في عرفهم، تكاد تنقرض، وهكذا، قدم النت لهم تلخيصا بائسا للحياة الوهمية، ربما أشنع من الحرمان الذي تصوروا انه سيختفي وحالا عبر الشاشة. تقدم لنا الرواية الحديثة وما بعدها، وعلى نحو خاص في بعضها، طوق الطهارة إحداها، ودون علم كاتبها، ربما، نصا يخلو من السخرية والفكاهة والتسلية بكل تلاوينها، وهو، يا للغرابة كل شروط ما بعد الحداثة، لكنه من جانب آخر حاول الروائي المس ببعض التابوهات التي تحسب للرواية والروائي في خاتمة المطاف.