الرواية حين تسقط في فخ الترهل الوصفي
كاتب يمني مقيم في سوريا
تعمل رواية محمد حسن علوان الأخيرة على مقاربة الأمزجة المتطرفة لشخصين هما معتز وصوفيا عبر سرد روائي طويل ومرهق.
الرواية المعنونة بـ ”صوفيا“ تبدو حاملة العنوان فيها هي الغائب الأكبر، فصوتها مختصر ضمناً بما يقرره معتز = السارد عنها، وما يتوقعه أو يدركه من مزاج صوفيا التي تمتص ما تبقى لها من حياة بقربه. هذا الإلغاء الكامل لصوت صوفيا باستثناء بعض الحوارات الخفيفة – ربما لتنويه القارئ بوجودها – أفرغت الرواية من الانتباه تجاه تفاصيل يمكن أن تشكل ماده مهمة تثير حركه أكبر في هذا السرد المفخخ باسترسال لا داعي له إلا بقدر ما يشغل من مساحة تجعل العمل أكبر.
الفكرة الأساسية إذاً هي موت صوفيا الوشيك، صوفيا التي فشلت عاطفياً فيما سبق، (وكثيراً كما يبدو ضمناً) ووجدت عزاءها فجأة في معتز الحبيب القادم من موقع مختلف جذرياً بالمعنى الاجتماعي والديني، (فهو مسلم سعودي وهي مسيحيه لبنانية!!)، وبالإضافة إلى ضجره وملله والرتابة التي يكرهها ولا يغادرها لا يبدوا مميزاً أو ذو امتياز خاص (ولا يساعدنا الروائي على خلق امتداد لشخصيته أكثر من انشغاله بكثافة في الأجزاء الأولى بدراسة أوضاع رتابة معتز وضجره). هذه الشخصية الملولة هي التي تتابع مع صوفيا اللحظات الأخيرة من حياتها. لا يتغير مزاج معتز كثيراً أثناء تواجده مع صوفيا فهو يبقى رهين ردود أفعال أولية تجاه انتكاسات صوفيا الصحية ولا يقدم أي أضاءه لشخصية صوفيا التي تبدوا طوال فترة احتضارها مشغولة فقط بفكره التزين له كي لا يمل منها بالإضافة إلى ممارسة الجنس معه والنوم على صدره!!
يقدم لنا محمد حسن علوان إذاً امرأة تموت وهي تجاهد لإرضاء الفحل الذي يشعر تجاهها بشفقه هائلة (حقيبة مشاعره التي فتحتها صوفيا لم تكن تحتوى سوى على الشفقة)، والأمر لا يعدو سوى (ورطة صغيره في شقة فتاة مريضة!!)
يبدوا ملفتاً للنظر وضوح معتز تجاه انفعاله الذي يخص صوفيا، فهو يحصل على المتعة ويشعر بالشفقة، ولا يتعدى الأمر كذلك، ولست بصدد إصدار أحكام أخلاقيه رديئة تجاه فكره كهذه فهي موجودة ولكن كنت أتوقع ضمناً تناول أعمق لانفعال كهذا له امتدادات أوضح في الشخصية أكثر من مسالة الرتابة التي يكررها السارد منذ بداية الرواية. إن خلق حدث أكثر وضوحاً يمكن أن تتم إذابة هذه السلوكيات فيه أو ربما خلق خلفيه بالمعنى النفسي أو الاجتماعي أوضح لهذا المزاج المتطرف وذو البعد الانتهازي كانت ستدعم من قيمة عدم الادعاء في تقديم شخصية معتز في الرواية (فهو يتركها رغم أنها تحتضر ليذهب يلهو مع أصدقاء – يلقاهم بغتة – في ملاهي بيروت حيث تستيقظ فحولة الصحراء و يكاد يغدق مالاً على من يرتمين على أصدقائه أكثر مما يفعل على من ترتمي عليه).
إجمالاً يدور الجزء الأكبر من العمل في شقة صوفيا التي تودع منها بيروت، أما الجزء الأخر فيدور في تهويمات معتز وتأملاته في حياته وفي صوفيا، إن صوفيا ليست بأكثر من طارئ رغم أن فضاء الرواية وجملة أحداث العمل تدور حولها ولكن كل شيء كما يبدوا لا يتعدى كونه إطار تحرض به صوفيا معتز للثرثرة مع نفسه. إن الإشكال هو ذوبان العمل في إطار ثرثرات وتأملات معتز دون أن تساعد هذه التأملات الشخصية على القيام بافتعال أحداث أكثر أهميه أو استدعاء ذكريات مثلاً كان يمكن أن تُحرك النص وتجعله ينفذ من هذا الركود الذي وقع فيه. الإشكال الأخر هو التمددات الوصفية والتي رغم أنها تشتغل في مقاطع تعبير جميله وملفته للغاية أحياناً إلا أنها تقع بالضرورة في الرداءة بسبب الاسترسال، الأمر الذي يحوله إلى مجرد ترهل بلاغي يقوم بإغراق الرواية كلياً، هذا الترهل السردي كان على حساب الحدث، إن لقاء شخصيتين متنافرتين على المستوى الديني والاجتماعي – ناهيك عن احتضار احدهما الممتد – كان يمكن استثماره في جعل النص أكثر حيوية والتقاطاً لتفاصيل الاختلاف بينهما وهو ما سيجعل النص أكثر ذكاء بدلاً من إغراقه في جملة مكرره بشكل ممجوج حول ملل البطل وشفقته وحول رغبة صوفيا التي تموت بإرضاء هذا البطل = الفحل جنسياً.
من زاوية أخرى لدى الرواية امتياز لغوي لافت للغاية – يشعرني بالحسد – فالسارد يستخدم من حين إلى أخرى مجموعه من التعبيرات الكثيفة للغاية والجميلة بنفس القدر.. إن مسالة كهذه تثير قلقي، فلماذا لا يستطيع الكاتب أن يعمد إلى تكثيف على مستوى الأفكار التي يشتغل عليها بذات المستوى الذي يشتغل عليه في اللغة.. إن البلاغة اللغوية الجميلة لديه تترافق مع فقر في العمق.. إن الأفكار التي يُعرض بها على مشاهد في النص تكون أقل مستوى من اللغة، وهو انفصام بين طاقة اللغة وبين العمق الذي يُفترض به إدارة حدث الرواية. تبدوا المسالة متعلقة بالقدرة الثقافية.. أي أن إدارة منطقة مميزة في الكتابة تحتاج إلى قدر من المعرفة بالمعنى العميق والتي تصقل زاوية النظر وتساهم في خلق أبعاد لأي تفصيل أكثر من الشكل الأولي الذي يمكن تلمسه.
إن التعبير الروائي الحديث يجب أن يتسم بالقدرة على تضمن ثلاث مستويات أساسيات برأي وهي: الأول هو الاشتغال على شكل من التعبير اللغوي الحديث ذو القدرة الجمالية العالية والخارج عن التعاقد التقليدي في تشكيل الجملة (وهذا البعد لوحده لا يكفي لتشكيل عمل روائي، وهنا وقع محمد حسن علوان في فخ الاسترسال اللغوي الجميل ولكن غير الكافي). الثاني يتعلق بالقدرة على إدارة علاقات – بشكل مضمر – معرفية وثقافية عميقة في النص، فالتشكيل الأدبي الحديث يأخذ امتيازه من قدرته على الحفر في مواقع تفكير وانتباه جديدة وهذا يحتاج إلى خلفية معرفية واضحة بحيث لا يتحول العمل نحو تمددات وصفية بلاغية غير مُلهمة ثقافياً (أعتقد أيضاً أن العمق الثقافي في النص كان مفقود أو سطحي للغاية، والتأملات لم تكون إلا جزء من شكل انعكاسي في ردود أفعال السارد كان يمكن الاشتغال عليها أكثر لكي تكون أعمق، خصوصاً وان هناك مناطق في العمل يمكن التفكير فيها مطولاً كماده خام يمكن استثمارها في تضمين بعد ثقافي هام في النص)، أما الثالث فهو يعتمد إجمالاً على العمق المعرفي للكاتب، إن اختيار الموضوع هو إشكال من الانتخاب المعرفي لمناطق الاهتمام في الحياة وهو يُفصح عن موقع الكاتب تجاه الأشياء وقدرته على تجاوز التعميمات أو المواضيع العامة بالأدق نحو مناطق غير مستقر عليها أو خارج إطار الاشتغال السردي التقليدي (طبعاً ليس لي تحفظ على الموضوع الذي اختاره فهو موضوع لافت ولكنه فشل باستثماره كفاية). طبعاً أنا لم أتحدث عن أهمية إدارة العمل السردي بشكل فني والقدرة على خلق حدث ذكي يشغل القارئ حتى لا يمل من التكرار في التأملات الذهنية أو الوصفية فقط، باعتبار هذه من أهم شروط (الصنعة الأدبية) اللازمة لإنتاج نص روائي جيد (وفي هذه المسالة كان هناك فشل في النص فالحدث ميت حقيقيةً أو مستلب لصالح التأملات الذهنية لمعتز التي استولت على 90% من الرواية). طبعاً هذا الذي تحدثت به في الأعلى هو شكل التصورات الخاصة بي والذي أحاكم بناءاً عليه أي تشكيل روائي يقع في يدي واعتبر نموذج حاكم يخصني طبعاً لا قداسه في هذا النموذج ويمكن أن أغير فيه لاحقاً، ولكنها الأن شكل من التلخيص النهائي لما خلصت إليه في نمط اختياري للمفضل في القراءة الروائية.
إن هذا العمل يقع في منطقه متوسطه بالفعل في الكتابة الروائية وهو لا يلفت النظر إلا باعتبار كاتبه سعودي، أي انه من منطقه فقيرة الانجاز على المستوى الروائي أو حديثة الدخول إليها، طبعاً هذا ليست حجه لصالح النص فالمقارنة تتم مع الجيد ولا تتعلق بمدى الجودة في الأعمال الوطنية الأخرى، واحترام العمل يكون عبر مقارنته بكتاب أكثر احتراماً لا بصيغة استصغاره عبرهم بل جعله في موقع ندي لهم ودون تفاضل بين أي من الاثنين إلا بمستوى ما ينجزه، فالكتابة لا كبير فيها برأي، وهي شكل من الخبرة الثقافية و الإبداعية الحرة لا يتمايز فيها واحد عن واحد إلا عبر جودة ما ينتجه وعمقه، لا عبر الكم الإحصائي للموزع فقط أو مدى تكريسه في الميديا الإعلامية، ومسألة المفاضلة بين أي عمل و عمل هي مسألة تخص كل شخص على انفراد ولا يمكن تعميم ذائقه واحده أو اختيار نمط مفضل جمعي لأن في هذا تستطيح لجوهر الفكرة الإبداعية في التلقي والإنتاج والتي تعتمد على الفردية تماماً.