arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى قراءات نقدية في موتٌ صغير

موقع الناقد العراقي

الرمزية الصوفية في العتبات النصية لرواية موت صغير

أحمد الشطري

شاعر وناقد عراقي

في روايته موت صغير الصادرة عن دار الساقي 2016 والفائزة بجائزة البوكر العربي 2017 يضعنا الروائي محمد حسن علوان امام مفارقة ذكية من خلال عنوان الرواية (موت صغير) ليجعل مخيلتنا تبحث عن الدلالة الرمزية للعنوان والعلاقة الغريبة بين الصفة والموصوف، هذا العنوان الصادم سيحفزنا بلا شك لقراءة الرواية والبحث في مسارات احداثها عما يمكن ان تكشف لنا دلالاته والمسوغات التي جعلت من الروائي ان يضفي على (الموت) صفة (صغير) وهو نوع من المفارقة الذكية ربما يشكل مناصا جاذبا ومغريا للقارئ باعتبار ان احد وظائف المناص هو الاغراء وهو ما يمكن ان يقوده للبحث عن مدلول هذه الصفة وعلاقتها بالموصوف، سواء كان ذلك من خلال المتن السردي او مما يعثر عليه من مفاتيح تساهم في الكشف عن دلالته الرمزية. ولان اهم وظائف العنوان- كما يرى جيرار جينيت في كتابه العتبات النصية- هو المطابقة بين العنوان والنص ولكن القارئ سيكتشف ان احداث تلك الرواية لا تنبئ بشكل مباشر بما يمكن ان يسهم في الابانة عن المدلولات الرمزية للعنوان، بيد اننا ومن خلال سيرة ابن عربي و بقاء اثاره وتأثيره كل هذا الزمن سينفتح امام اذهاننا تأويل ربما يبدو منطقيا بان ما قصده الروائي في عنوان الرواية :ان فناء جسد الانسان وانتقال روحه الى العالم الآخر هو موت صغير طالما انه ترك اثارا تخلد اسمه وتبقي ذكره حاضرا في اذهان الناس، وهكذا هو ابن عربي الذي بقي فاعلا في الحياة من خلال ما خلفه من اثار علمية وادبية.
وكمدخل للرواية اختار الروائي قول ابن عربي ( الاهي ما احببتك وحدي، ولكن احببتك وحدك). وقبل ان نتبين علاقة ابن عربي ومقولته بالرواية سنجد انفسنا امام علامة ارشادية تحيلنا الى عام 610هـ 1212م وفي اذربيجان تحديدا. اذن فنحن ازاء حكاية تتخذ من حادث تاريخي مسارا لها. وهو اسلوب ربما لقي رواجا لدى الكثير من الروائيين وخاصة في الفترة الاخيرة بما عرف نقديا (بالميتاتاريخية)، وما ان نتقدم في قراءتنا حتى نكتشف ان محمد حسن علوان اتخذ من حياة ابن عربي الواقعية والمتخيلة متنا حكائيا لروايته وهو ما يفسر لنا الدلالة الارشادية الاولى لكلمة ابن عربي. ويبدو ان حياة المتصوفة قد شكلت مادة دسمة للكثير من الروائيين المعاصرين بما يكتنفها من غموض تفتح للمخيال الروائي افاقا واسعة لخلق نوع من الايهام الجميل لدى القارئ بين الحقيقة والمتخيل.

لقد استخدم محمد حسن علوان مئة مقولة لابن عربي كل مقولة تمثل عتبة نصية لفصل تتفتح مدلولاتها من خلال ما يجري فيه من احداث، ويبدو ان استخدام هذا العدد جاء تماهيا مع الموروث الديني فقد جاء في بعض الآيات استخداما له (فأماته الله مئة عام) البقرة 259. (في كل سنبلة مئة حبة) البقرة 261. او جاء تماهيا مع رمزية هذا العدد وفق الفكر الصوفي وعند ابن عربي نفسه اذ يقسم نفوس الاولياء (العبادلة الباطنيين – والبالغ عددهم ثلاثمئة – الى ثلاثة اقسام (كل قسم مئة):
الاول: نفوس روحانية علوية. الثاني: نفوس روحانية وسطية. والثالث: نفوس روحانية سفلية. ينظر دلالات الارقام انموذجا رمزيا في المصطلح الصوفي. د. خالد علي عباس. مجلة جامعة طيبة. السنة الخامسة عدد.8.
لقد كانت تلك العتبات النصية المتمثلة بمقولات ابن عربي بمثابة دلالات تفتح ابواب النص، كما انها تمثل شحنة دافعة للولوج الى عالمه. واكتشاف ما انطوى عليه من معطيات سردية.
ومن الواضح ان لتلك المناصات وظائف متعددة سواء كانت وصفية او ايحائية او اغرائية. لابد ان يعكس ما تحتها جانبا او جوانب مما وظفت لأجله. وفي رواية موت صغير كان ذلك التوظيف فعلا واعيا عكس مدى الانسجام بين محتوى النص ودلالة المناص وبذلك كان مستثمرا لوظائفه بشكل محكم سواء في الجانب الوصفي ام الاغرائي ام الدلالي.

كما قام محمد حسن علوان بتقسيم الرواية الى اثني عشر سفرا ويبدو ان في هذا التقسيم اشارة لما يمثله هذا الرقم لدى الصوفية عامة ولدى ابن عربي خاصة، ويتضح ذلك من قول ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية ج4: ( فأقطاب هذه الامة اثني عشر قطبا عليهم مدار هذه الامة كما ان مدار العالم الجسمي والجسماني في الدنيا والآخرة على اثني عشر برجا)ص 82 ولذا فان الروائي جعل روايته في اثني عشر سفرا يدور عليها مدارها. وكأنه يريد ان يوحي لنا ان روايته تتماهى مع حياة ابن عربي شكلا ومحتوى، وهي حقيقة تبدو جلية من خلال العنوان ببعده الرمزي سواء كانت تلك الرمزية في فضائها الصوفي ام في دلالاتها السميائية. اولا وثانيا من خلال البناء السردي للحكاية وتوظيف تلك المقولات بما تستبطنه من مضامين كإشارات لإحداث الحكاية ووفق الفكر الصوفي فان لكل اشارة دلالتها ورسالتها المشفرة التي تحتاج الى ذهنية عالية للوصول الى تلك الشفرات.
بنيت الرواية على ما تضمنته مخطوطة تحكي عن حياة ابن عربي وقد تنقلت هذه المخطوطة في اماكن وازمنة متفرقة فكان كل مكان وزمان تظهر فيه المخطوطة له راو ضمني ينقل ما يجري من احداث عليه وعلى المخطوطة والاسباب التي جعلت المخطوطة تنتقل الى ذلك المكان. ورغم اننا لا نشعر بتعدد الرواة فجميعهم يتحدثون بصيغة (الانا)، الا ان تباعد الفترات الزمنية هو الدال الوحيد على تعددية الاصوات الراوية.
تبدأ رحلة المخطوطة من اذربيجان، ثم تنتهي رحلتها في بيروت بيد طالبة دكتوراه بعد ان يبيعها اياها اخر حامل لها، والذي خرج بها هاربا الى بيروت من مدينة حماه السورية بعد احداث 1982، ومن الواضح ان رحلة المخطوطة بين تلك الاماكن المتفرقة جاءت محاكاة لرحلة ابن عربي، فانتهى المطاف بها في سورية حيث انتهى به المطاف ايضا.
ومما لاشك فيه ان الروائي محمد حسن علوان من الروائيين الذين يمتلكون قدرة بارعة في صناعة الرواية، سواء على الصعيد الفني، ام الصعيد اللغوي والثقافي، فقد كانت لغة الرواية ذات نسق عال تنطوي على مخزون كبير للمسميات المتداولة في ذلك الزمن. كما ان الاسلوب السردي قد اضاف للرواية عاملا تشويقيا يحمل الكثير من عوامل الجذب والادهاش. بيد ان ما يمكن ان يؤاخذ عليه الروائي هو الاصرار غير المبرر على اقحام العامل السياسي في اطار نص ادبي هائل، ويبدو لي ان ادخال مدينة حماه ضمن سلسلة تنقلات المخطوطة جاء بدافع قصدي وليس بمسار فني او سردي يتناسب مع النهاية الواقعية لحياة ابن عربي الذي توفي في دمشق. وكان يمكن لرحلة المخطوطة ان ينتهي بها المطاف في تلك المدينة ايضا، تماهيا مع النهاية المكانية لصاحبها، ومع هذا تبقى هذه الرواية في اطارها الفني والحكائي عملا مميزا، يستحق بجدارة ما حظي به من تكريم واشادة، فهو اضافة نوعية كبيرة للسرد الروائي العربي.