الحب .. موت صغير
- – ماذا نفعل بالشيطان الذي بداخلنا؟
- ماكث فينا ما حيينا. لا جدوى من إخراجه. هو جزء منا.
- وكيف نتطهر من أثره؟
- إن صُمت طهّرت جسدك، وإن زهدت طهّرت روحك.
- وكيف أطهر قلبي؟
- بالحب.
بهذا الحوار الرقيق المتسامي أبتدأ قراءتي لرواية محمد حسن علوان “موت صغير”، والصادرة عن دار الساقي، والتي تبرهن أن علوان يدور في فلك الحب في أعماله، فهو ثيمته التي تشي به دوماً، ولكنه هنا أخذ الحب من معناه الإنساني الضيق والمحصور بالمعنى الرومانسي إلى المعنى الوجودي الأوسع، إلى الحب الذي لايزول! فمن خلال سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي والتي سردها بدون التقيد بخط الزمن وهذا ذكاء يخلصه من إحراج وجهد التحقق من الأحداث على خط الزمن ويمكنه من مزج الحدث الواقعي بالمتخيل. جاءت الرواية على لسان الشيخ الأكبر متحدثاً عن نفسه من قبل ولادته إلى بعد مماته، وحتى يقبل القاريء هذا المنطق السردي، اتكأ علوان على كرامات المتصوفة مستهلا السرد بقوله: (أعطاني الله برزخين: برزخ قبل ولادتي وآخر بعد مماتي. في الأول رأيت أمي وهي تلدني وفِي الثاني رأيت إبني وهو يدفنني). وبهذا تحرر علوان من عقبة منطقية السرد بضمير المتكلم.
تحدثت سيرة ابن عربي هذه عن حياته، عن ما مر به من النزاع الروحي بين ما تمناه أبوه أن يكون عليه وبين ما أراده هو لنفسه، عن سفره وترحاله، عن خلواته، عن ابن عربي الإنسان وليس ابن عربي الفيلسوف، لذلك تجد هذه السيرة لا تبحث في العمق ولا تغوص في لجّة تفسير نظريات ابن عربي وفلسفته، وإنما تشير إليها ولا تغوص فيها. نجد فيها تقلب الأحوال وتغير المكان والزمان فعصر ابن عربي فيه من الأحداث الكثير، حروب وخلافات، أحوال فُرقة واختلاف يؤدي إلى الجدل والخلاف، فهاهم الفقهاء مع المتصوفة على اختلاف وشد وجذب، فَطَال ابن عربي اتهامهم له بالزندقة أو الكفر فهم لايفهمون رموز كلامه، ولا يعون باطن معانيه، والإنسان عدو مايجهل. كل هذه الأحداث يمر عليها السرد بلمحة وحوارات قصيرة سلسة تأخذك بخفة من خلال صفحات الرواية دون أن تشعر، لذلك أقول لمن عوّل على أن يخرج من هذه الرواية بتفسير فلسفة ابن عربي أو بتبريرٍ لمقولاته الرمزية في خلواته وتجليه أو من يبحث فيها عن حقيقة ذلك القول عنه أو ذاك القول عن عقيدته، فسيصيبه الإحباط ولن يجد ضالته، لأنه لم يتطرق من خلالها محمد حسن علوان إلى ذلك، فلما يتكبد عناء البحث في تفسير الشطحات أو تأويل الكلمات وتفكيك الترميزات إذا كان الشيخ الأكبر نفسه لم يقم بذلك وهو القائل:
وما عليّ إذا ما قلت معتقدي *** دع الجهول يظن الحق عدوانا
أَجِد في نص علوان البديع هذا نضوجاً واضحاً أبعده عن اللغة الشعرية التي كان ينتهجها والتي تحول نصوصه إلى قصيدة نثرية تخلو من الأحداث التي هي أصل من أصول فن الرواية، ولعل موضوع النص هذا ساعده على ذلك. يحسب له فوق كل هذا إتخاذ ابن عربي مدخلاً لمادته التي أراد وفكرته التي رغب بإيصالها، فهؤلاء الرموز العظام في تاريخنا الإسلامي لم يتم تناول سيرهم أدبياً وفِي قالب فن الرواية على وجه الخصوص، فكانت له سابقة استخدم فيها سيرة الشيخ الأكبر وأحوال زمانه بذكاء، داعياً من خلالها إلى نبذ الإختلاف المؤدي إلى الخلاف، داعياً إلى حب يحرر الإنسان من ضيق الأرض إلى سعة الملكوت (فالإنسان عالم صغير والعالم إنسان كبير)، حب يعلم الإنسان أنه (يأتي باللين ما يأتي بالقهر، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين) وأن (ديننا هو دين الحب وجميع البشر مرتبطون بسلسلة من القلوب، فإذا انفصلت حلقة منها حلت محلها حلقة أخرى في مكان آخر).
هذه الطريقة التي بنى بها علوان نصه السردي هذا، بالتغاضي عن الغوص فيما اختُلِف فيه مع ابن عربي، وعن كل ما قد يثير الزوابع من فلسفته التي ملأت الدنيا جدالاً ونقاشاً إلى يومنا هذا، آخذاً من سيرته الجميل الظاهر، هذه الطريقة أثارت الأسئلة في نفسي، ماذا لو حاولنا أن نبعد الصور النمطية عنا في الحكم على الأشخاص، وفي بناء علاقاتنا، فلا تصنيف ولا تقسيم، فلا نبذ لذاك ولا غلو في هذا. لماذا لا نبني علاقاتنا على ما نراه، ما نلمسه منهم، لا على ما نسمعه عنهم. لماذا نحاول الغوص في خفايا النفوس، لماذا نسأل عن أشياء إن تُبدى لنا قد تسؤنا، لماذا لا نعي أن لكلنا عورات وللناس ألسن؟ هذا ما أراد علوان أن يثيره، أو هذا ما فهمته أنا على أقل تقدير.
ما انتهيت من قراءة هذا النص إلا وأنا أخاطب نفسي، كفانا طفواً على السطح، كفانا تمسكاً بالقشور، فلنطهر القلب ونمضي، نسافر نحو ذواتنا ونسمو، ومازلت بعد قراءته أتأمل ماقاله ابن عربي: أنت أيها الإنسان، أنت المصباح والفتيلة والمشكاة والزجاجة.