الحب موتُ صغير
أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس
“الكون كله شبهة فأنت لا تعرف منه إلا أنت…
فمقدار كل امرئ حديث قلبه”
ترانيم في مقام نشيج نجدي هو كتاب موت صغير لمحمد حسن علوان. اقتنيته بالصدفة، كان يكفي أن اتفطن إلى وجوده بين المؤلفات المصفوفة بعناية على واجهة محل بيع للكتب حتى يحرك فضولي حصول مؤلفه على جائزة البوكر العربي لهذه السنة، وهي التي انشغلت عن متابعتها والتعرّف على مضامين عناوين القائمة القصيرة لمتوجيها.
ما إن قلبت صفحة الظهر من الغلاف حتى أدركت أن سيرة متخيلة لشيخ متصوّفة المغرب والأندلس محيي الدين بن عربي قدّت في ستمائة صفحة ومائة فصل، هي ما يغري بالقراءة ويشحذ الفكر على المتابعة. الخط الروائي ضمن مقترح محمد حسن علوان يلاحق تنقلات ابن عربي بين حواضر الإسلام من الأندلس إلى القاهرة ومكة والشام وبغداد، كل ذلك في إطار سياحة تأمل طويلة يبحث من خلالها المريد عن أوتاده الأربعة، متدبرا بعمق كرامة معلمته الأولى في الطريق فاطمة القرطبية، تلك التي أعلمته أن تثبيت ذاته لن يستقيم إلا من بوابة تطهير قلبه بعد التأدب على يد أوتاده الأربعة.
وفّرت حجة الضرب في الأرض سببا دراميا كافيا لرحلة طويلة صحبة الإمام الأكبر بين البلدان في نوسان شديد دسّ مؤلف الرواية في ثناياه توصيفا للواقعَ السياسي لإمبراطورية المسلمين العالم، منشغلا بقضايا الحكم وصراع الممالك حال روايته بمنطق العارفين وتدبير من عايش حكم المرابطين فالموحدين فالأيوبيين فالعباسيين فالسلاجقة وكان شاهد عيان على نزاعاتهم وحروبهم ضد البرتغاليين والإفرنج وثورات الممانعين ضد سلطتهم على غرار مشاحنات الموحدين ضد بني غانية ولاة المرابطين على الأندلس.
أحداث علّم وقعها المأسوي مسار حياة محيي الدين وخلّفت خطا دراميا قويا استغله المؤلف لنسج حكاية ملهمة أخاذة. وحتى وإن تعزز الخط الدرامي بوقائع موازية تعقبت ضمن 12 فصلا كتب جميعها بخط داكن حركة مخطوط سيرة ابن عربي، متعرضا إلى انتقاله من يد إلى يد ومن زمن إلى زمن، كي يعاين زوال الأيوبيين، وتدمير هولاكو لحلب، وصراعات مماليك مصر والشام من البحريين إلى البرجيين، وانتصارات العثمانيين عليهم، واحتلال الفرنسيين لبلاد الشام، وإفلات سيرة ابن عربي من التلف حال تدمير حماة في بدايات ثمانيات القرن الماضي ومضاعفات الحرب بعد الاجهاز على “ربيع السوريين الجنيني” في بداية العشرية الثانية من القرن الذي نعيش واحتفظان خزائن المخطوطات بباريس لتلك السيرة بعد أن أقنعت باحثة فرنسية آخر مالكيها بالتفريط فيها نظير زهيد المكافئة، فإن تلك العروض المستلهمة من تقليعة تلبست بالعديد من الأعمال الروائية والسينمائية المشهورة لم يتجاوز حضورها التشويش على عرض أدبي وسيري لم تكن به أية حاجة إلى مثل تلك الاستطرادات المملّة.
اقترنت في موت محمد حسن علوان الصغير السيرة بالتاريخ في عرض شيق يمسك بقارئه ويشده للحكاية شدا. فقد تميزت أعمال مؤلفها الأدبية بجودة الصياغة منذ بواكير أعماله في “سقف الكفاية” الصادرة عن دار الساقي سنة 2002، تلك التي اعتبرها النقاد “ديوان شعر نثري” ورواية “القندس” المنشورة سنة 2011، تلك التي اقتلعت موقعا متقدما ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربي خلال سنة 2013. سار الشاعر والأديب السعودي في نفس النهج بإصرار قلّ ما نعثر عليه لدى غيره من الكتاب. فهو لا ينقل حكاية يتخيّر أحداثها بدهاء محترفي الأدب الروائي فحسب، بل يبث نشيجا صامتا متدبّر المعاني لعذابات أرواح صدرت عن إيمان مربك عميق. لكأنه يكتب حتى يدفع القارئ إلى شاركته صلاته من أجل خلاص إنساني وشيك.
يتوافق أسلوب علوان الشفاف في الكتابة وفي جوانب عديدة منه مع ما حملته أعمال الكاتب الفرنسي “كريستيان بوبان Christian Bobin”، تلك التي صدرت تباعا منذ بداية تسعينات القرن الماضي، حيث اختار لصياغة تأملاته العميقة حول مدلول الحب شخصية قديس بلدة “أسيز” الإيطالية “سان فرانسوى Saint François d’Assise” (ت 1223م)، تلك الشخصية التي تعالقت سيرتها بشكل مربك مع ما آثر محمد حسن علوان أن يرويه لنا في موته الصغير. فلئن سيطر التفكير بشؤون السماء على معظم أخبار قديس أسيز فإن مدبر تلك السيرة قد وظف ذلك الشاغل للتعبير عن قدرة لا تضارع في سرد مختلف الشواغل التي أثثت مسارات كائنات تقاسمت قدر العيش على نفس الرقعة وخلال نفس الفترة الزمنية.
فكتاب “الوطيء Le très-Bas” نصّ فارق صدر ضمن سلسلة “الأنا والآخر” الغليمارية منذ سنة 1992 ولم يكن في تصوّر أحد عندها أنه سيلقى حال نشره ذلك الإقبال الملفت، ليتحول بالتقادم إلى “كتاب شباك Best-seller. فقد شكل الحدث انقلابا جذريا في موقع مؤلّف منكفئ على نفسه، غير أن حياة الشهرة لم تجعل “بوبان” يتخطى معتكفه العائلي، متمسّكا بتصوّر خاص لفعل الكتابة لا يقصر كنهه في المدلول الضيق للنشاط الأدبي، بل ينفتح على زاوية نظر أرحب تحيل على اللذة التي نجنيها ككائنات مفكرة حال عبور جسر الحياة.
ولأننا لن نستطيع تعليب جرعات تلك اللذة في بضاعة نبتاعها على غرار ما نقتنيه لإشباع بطوننا، فإن مؤلفي سيرة قديس أسيز وسيرة دفين دمشق وسليل مرسية الأندلسية، قد شكّلا سياق روايتهما بشكل يشبه في فجاءته حالات العشق العارم التي تخترق حياة الشخص، فتتغلغل في تجاويفها آسرة بالرمة جسده آخذة بجميع كيانه.
عشق لحظة الحضور مع الآخرين هو المدلول العميق لتلك السير المعبأة وتعقّلهما لمسار الترجمة في فرادتها وغيرتها المختلفة عنّا، العاكسة لذواتنا في آن. ما حصل هو أن واضعا ذانك الأثرين قد دخلا في علاقة أصبحت فيها كل كلمة يكتبانها أو يتفوهان بها تُلتقط بمنتهى السهولة وكذا الأمر بالنسبة لحالات صمتهما في مصادفتها لنفس الآذان الصاغية. لم يكن ذلك التلقي من قبيل حالات الإحساس بالانصهار التي يشعر بها المحب في بداياته، فقد كان هناك ترنيم صادق معافى من كل نشاز. لا نعقل ونحن ننشج مع مؤلفيه أننا بصدد نشر أجنحتنا الشفافة لتحلّق صحبتهما مثل اليعاسيب في استقبالها للضوء أو فنائها في لهيب النار. فالحبّ معجزة تجعل صمتك كلاما مسموعا وتهبك قدرة على الانصات برهافة حسّ إلى ما ليس للآخرين حاجة للتلفظ به. إنه الحياة بأعلى درجات الصفاء رهيفة كالهواء، حتى وإن “تعين أن تقتلع منّا القلوب حتى نسميها بذلك الاسم”.
جاء علوان للأدب من عالم المحاسبة وتصريف الأعمال، تماما مثل صنوه الفرنسي الذي انتقل من مجال الفلسفة ليكتب آثاره الملهمة وينتقي ألفاظا وتركيب وومضات مكثفة تعكس وقائع بعينها أو حيز زمني يمكن نسبه بسهولة إلى مجال الرواية أو وربطه بالمذكرات الحميمة التي ضارعت في أسلوبها أجمل القصائد النثرية، فنحن إزاء إبداع لا يصغي إلا للمفردات البسيطة التي تحيل على مألوف الأشياء مع إيمان عميق بالحب الذي يلقي بضلاله بأحرف بارزة على الأشياء في تناسب تام مع الجلال الذي يحيط به. وحتى وإن أفرطت الكتابة في الاحتفاء بالتفاصيل معوّلة على أدوات الصناعة الروائية، فإنها قد نجحت في تجنّب القوالب النظرية الجاهزة، مثبتة هوس مجترحيها ببسيط الأشياء وتعففهما عن ادعاء امتلاك أي قدرة في الإصغاء بذلك التركيز لما يدور حولهما، تماما مثل صبي تخيّر زاوية في باحة مدرسة لمتابعة ما يقوم به الأخرين، دون رغبة في مشاركتهم ما يأتونه من خالص المتعة.
يتحدث متين الدين الاصفهاني والد حبيبة ابن عربي نظام في موت علون الصغير عن فلسفة الرضا فيربطها بحديقة منزله التي ما إن يتفيأ ظلالها حتى تأوي إليه كل زهرة ويدنو منه كل غصن مصرّحا بـ”رائحة الريح وطعم اللقاح وأسرار الليل وحفيف الأوراق ورقص السناجب”. فيشعر برضا الله يحيط بقلبه دثارا دافئا في ليلية برد أو وميضٌ من ضوء… أو ملاك يتسلل إلى الروح ويحضنك مثل صديق قديم”. (346 – 347)
يشير الشيخ الأكبر وهو يحتضن حبيبته ووتده الثالث نظام أنه يـشرب من “لماها شعرا وبيانا ولغات لم ينطق بها من قبل وأنها تركت على لسانها كتابا من العشق لم يكتبه بعد” (352)، مضيفا وفي موضع آخر من سيرته أنه “كان لا بد له من مكة ولا بد لمكة منه. فكل شيء يمر به الإنسان في حياته لابد منه… كل أمر يمر به من فرح أو حزن، من سلم أو حرب، من حب أو كره، هو نفس من أنفاسه لو لم يمرّ به لاختنق وعاد إلى العدم” (366) “… يريد الله أن يبتلي السالك حتى يرى طريقه والعارف حتى يذوق إيمانه. .. يقلّبنا… بين أصابعه في المكان والزمان حتى نعرف قدر أنفسنا فلا نعدوا عنها.” (410). ألم يجلو البسطامي نفس تلك المعاني الذوقية لما صرّح مكاشفة: “ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي…حتى سقتها إليه وهي تضحك.” (456). فـ”الطريق إلى الحقيقة تتعدد بتعدد السالكين” (561) و”… الكون كله شبهة فأنت لا تعرف منه إلا أنت.. حتى العلم نفسه، ذاك الذي يطرد الجهل غير معنيّ بجلب السعادة.” (562)
يبدع علوان في إسباغ شحنة وجدانية وانفعال عاطفي عميق على الموجودات. وينخرط مثل مؤلف سيرة قديس أسيز تماما في حديث مكتهل سرمدي النضارة، شهي كقرص خبز خرج لتوه من التنور.
“جميلة هي، لا بل أكثر، هي الحياة ذاتها في رقة الفجر الساطع … جلائها بديهي، بداهة حسنها والضوء المنبعث من بين كتفيها في حنوها على المهد مُصغية لأنفاس رضيع لم يزل كتلة لحم وردية مُتخلّقة، إنسان صغير أقل حولا من صغار القطط ومستنبت الشجيرات. جميلة هي من أجل هذا الحب الذي تنـزعه لتدثّر عراء وليدها. جميلة هي بقدر تجمّلها في تلبية نداء صغيرها.
جميع الأمّهات يمتلكن هذا الجمال، كلهن يقوين على السمو لبلوغ حقيقة محفوفة بألطاف خفيّة. جميعهن يمتلك ذلك اللطف المنساب المستفز لغيرة الخالق، لطف مجلّل بدثار الحب، واحدا أحدا مضلل بشجرة الأبد… يذهب الآباء إلى الحروب، أو يُفْضُون إلى أشغالهم يُـمضون العقود، يتصنعون في جلد تحمل مسؤولية الاجتماع البشري وأرزائه، ذلك هو قدرهم وتلك أعمالهم الجليلة المُذهبة لأعمارهم … وتحمل الأمّهات وزر العناية الإلهية، لأنه عشقهن … ومَضْيعتهن وصولجان ملكهن… أن نكون أمهات … فذلك هو الشيء الغامض الذي لا يشبه في الخلق شيئا… الأمهات مُحاطات في المشيئة بألطاف السكينة مكلّلات بالرّضا. ليس هناك من لطف أعم من لطفهن … يمتلك الرجال العالم ويبقى للنساء امتلاك الخلود المحتضن للعالم والرجال… أمومة تحتضن الكائنات ومطلق الكون… أمومة تتخطّى فرط التعب وتبتلع الموت مُشرعة أبواب البهجة… يسافر الرجال… بعيدا، يغتربون عن بلدانهم عن طفولتهم ليصادفوا أنصاف أجسادهم المكمّلة لأرواحهم. لو لم يتزوجوا غير جارتهم، فإن ما يبحثون عنه يقبع في أحلك زوايا أعماقهم. المرأة هي أبعد ما يوجد في العالم بالنسبة للرجل، وهي القادرة بجميل لطفها أن تنـزّل في غفوة من تُحب ملائكة تخترع له ولها عشقا لم يتلألأ نوره على العالم بعد، فيذرف دمعا جميلا يستعيض بهشاشة الوجد المُعنّى عن كبريائه منافسا غيره في مطلق الجمال لا في قوة البطش… باللقب العائلي يلتحق الطفل بعالم الأموات خلفا عن سلف، وباسمه يتصل بعالم الأحياء ومجال المُمكن، فينشدّ مطلق الحب مُبشرا وقديسا، أو يحتضن هشاشة الحياة شاعرا ومغنيا، وقد يصيب ثنتيهما بلطف خفيّ، مبشّرا من فرط الوجد مٌغنّيا، أو حواريا أصابه العشق في مقتل.”
رواية محمد حسن لسيرة محي الدين بن عربي عمل متخيل وفق حياكة ماهرة، ركز مؤلفه على الأحداث التي شكّلت سيرة ابن عربي وفكره، متعمدا نزع الهالة الكرامية والسحرية عنها، مهتما بالصبيّ، والفتى العاشق، واقفا عند تقاطيع شخصية الإنسان وتحولاتها فيه، حتى تنساب التفاصيل طيّعة عن حياته مولدا ونشأة، يوميات وقلقا، خوفا وانحرافا، حبا وغراما.
زواجه الأول وابنته زينب التي ترك موتها في قلبه جرحا عميقا، عشقه لنظام ابنة متين الدين الاصفهاني التي حالت بينه وبينها حبكة الاوتاد في الرواية، فأثمرت ديوان “ترجمان الاشواق”. بحثه وعلمه واشراقاته، وخلافاته، وعلاقته بملوك وحكام ومتصوّفة وفلاسفة عصره ومقت رجال الدين لتأملاته البكر، ثم شيخوخته وانتهاء حبل حياته.
“طهر قلبك”، هو منطلق الرحلة الجوانية في أعماق محيي الدين، وبحثه الذي لا يفت طيلة مشوار حياته عن اوتاده تثبيتا لقلبه المُعنّى. لو جمعنا تلك الاوتاد لكوّنا حياة ليست على نهج الفضيلة بالضرورة غير أنها راسخة وطهارة ومتوّجة بالحب المتضمن لعميق معنى الخلاص.
لو كان لرواية محمد حسن علوان الأخيرة الموجّهة للسعوديين من قراءه قبل غيرهم، أولئك الذين لم يظهر المؤتمنون منهم على الثقافة الرسمية احتفاء خاصا بأعماله، وتوجسوا من نضارة تعابيرها المنقلبة على ردأة زمانهم المعمّمة من فضل، لكانت خطّاف ربيعهم المُعرّي لحقيقة تحنط تمثلاتهم، الملطّف لقيض حماقاتهم بعد أن أوشكت على طيّ حضارة المسلمين وردها إلى ازمنة خوالي./.