صوفيا، الرواية الأخيرة لمحمد حسن علوان
الإقامة في فكرة الموت
كاتب فلسطيني
”التفلسف هو أن تتعلم كيف تموت“
(مونتاني) – توفي 1595
لم تشدد أي مرحلة تاريخية من تاريخ لبنان الحديث على فكرة الموت على نحو ما فعلت الحرب الأهلية اللبنانية المنتهية منذ ما يقرب العقد ونيف من الزمن. فقد زرعت هذه الحرب الدامية في بدايتها لدى المواطن اللبناني هاجس الخوف (الفوبيا) من الموت الذي اجتاح البشر المسالمين في غالبيتهم وفعل فعله الشنيع فيما بينهم. وفيما بعد سرعان ما حولت موضوع الموت إلى مسألة يومية عادية معاشة تافهة لا معنى لها ولا قيمة باعتبارها جزءا من الإخبار اليومي لمجريات القتال الدائر يومياً على حلبة الصراع الأهلي. أكثر ما كان يثير الانتباه لدى سامعي وناقلي هذه الأخبار هو الشكل والطريقة التي انتهت فيها حياة أحدهم والأسلوب المأساوي الذي اعتمده القاتل في اصطياد الضحية القتيل. وقد تعددت هذه الطرق والأساليب لدرجة أن المخيلة البشرية العادية كانت غير قادرة على التصور الحقيقي للقتل وطرقه بقدر ما كانت عملياً قادرة على الاستماع فقط دون تطبيق التخييل إلا عند من هو مستعد فعلياً لردة الفعل أو التلذذ عند البعض الآخر.
هكذا حولت الحرب الأهلية الموت في قذيفة طائشة أو هادفة أو في المعارك المباشرة بين المتقاتلين أو من خلال القناصة الذين كانوا بحق نجوم هذه الحرب بسبب قدرتهم الفائقة على صيد ضحيتهم بالقوة والعنف والغدر والجَلَد نفسه الذي يجعلهم ينتظرون هذه الضحية لساعات طويلة دون كلل أو ملل.
وفي مسألة القناصة بالذات، وهي من أكثر أدوات الموت المأساوية التي استعملت في الحرب اللبنانية وحيكت حولها الحكايات والقصص الخرافية التي أرقت كل من كان موجوداً داخل الحرب حتى في بيته من الداخل. في هذه المسألة بالذات نجد أن أي استعادة تصويرية أو أدبية للحرب لا تخلو من قناص أو من قصة موت تمت ببرود على يد قناص كان يدخل الرصاصة إلى جسد الضحية التي غالباً ما كانت تعتقد أنها بعيدة عن مرأى منظار قاتلها المتربص في البنايات العالية المطلة خصوصاً على تقاطعات الطرق الرئيسية وغيرها وعلى المباني المقابلة لها.
في مسألة القناص لم يخل فيلم اللورد لورن ثيسن labyrinth (المتاهة) من مشهد القناص الذي يصيب الطفل الصغير في قلبه فيما كانت الأم داخل بيتها تغلق كل النوافذ بقطع قماش سوداء لتنتقي رصاصاته القاتلة فتلعب مع قاتلها “الغميضة” ولا تقدر على الظهور أمامه أبداً لأنها الطرف الأضعف في لعبة الموت القائمة بينهما. هذا كان في الفيلم الذي أثار منذ عرضه في لبنان الكثير من الجدل قبل شهر من هذا التاريخ بسبب الطريقة التي تناول فيها المخرج موضوع الحرب اللبنانية.
مرة ثانية تستعاد الحرب ولكن بشكل طفيف ومع إحدى ضحاياها، ففي روايته الأخيرة الملهمة (صوفيا) لمحمد حسن علوان لم يتورع الروائي السعودي الشاب في مجمل حديثه عن الموت الذي ينهش جسد ”صوفيا“ البطلة، لم يتورع عن ذكر القناص الذي قالت صوفيا انه بعد أن يأست طلقاته من إصابة أبيها الذي كان ينتقل بين أجزاء البيت المدمر محتمياً بحمله لأحد الأبواب قرر ”القناص” في لحظة ذكاء وحشي نادرة أن يتناول الضحية “الذكية بقذيفة صاروخية ليحيل والد صوفيا بثوان معدودة إلى أشلاء متناثرة ضاعت معالم جسده حين تحولت إلى غبار كما المبنى المتهدم“.
هذان المشهدان المطابقان لبعضهما ليس لهما الأثر الكبير في الرواية التي هي موضوع هذه المقالة. فالرواية لا تحمل فقط هذا المشهد المأساوي للموت. بحيث إنه يأتي ضمن سياق الرواية كعنصر مكمل لها من حيث انه يكمل السيرة المأساوية لامرأة فقدت أهلها في الحروب وتخلت عن العالم بعد مرضها في (السرطان) بإرادتها ولم تجد في العالم كله سوى الصديق (الالكتروني) المقيم بعيداً عنها في قلب الصحراء ليأتي إليها ويشاركها آخر لحظات حياتها. الصديق الذي طلق زوجته ويعيش فراغاً كبيراً في حياته الاجتماعية كان يستجيب لنداء صديقته المريضة ويأتي إلى بيروت في مغامرة ما تلبث أن تصيبه بالملل الذي يستمر معه طوال فصول الرواية. ولكنه الملل الذي يجعله شخصاً آخر غير الذي كانه من قبل رحلة بيروت. وبعد أن يعود للرياض يتبدل ويصير كائنا غير اجتماعي كما في السابق (صرت استبدل فرشاتي أنا وتبقى فرشاتها نفسها، وحيدة، واقفة بانكسار، ومرغمة على التأقلم مع فرشاة جديدة كل شهر) وأصبح هكذا يتكلم عن زوجته التي تركته ليعيش وحيداً في بيته، ومع أن النص المقتبس من الرواية لا يشكل أي شيء في الرواية فإن المبالغة في الوصف التي اعتمدها علوان أجبرتني على تناوله في البداية وقبل أي شيء آخر رغم وروده في آخر الرواية. والمبالغة هنا في تغيير فرشاة الأسنان (كل شهر) وهو أمر نادر الحدوث في العالم بحيث أن العمر الطبيعي لفرشاة الأسنان بحسب أطباء الأسنان والمختصين (ثلاثة أشهر) وفي هذه الحالة يكون عامل المبالغة كبيرا جداً، إلا إذا كان يقصد منه تحدي الملل وتحدي الفرشاة الأخرى التي هي فرشاة الزوجة الغائبة وربما تحدي الوجوه في محاولة لإثباته. ولا أريد أن أدخل في تكهنات أخرى حول هذا الموضوع ففي الرواية مواضيع تفتح آفاقاً فلسفية تتناول الموت وهي بالغة الأهمية عدا عن غيرها من الأمور التي يمكن تناولها.
داخل هذه الرواية التي تلهج بالموت فإن عاملاً آخر ساهم في إبقاء الخوف من الموت متوهجاً بالحياة بالإضافة إلى التجسيد الواسع النطاق للجوانب المفزعة من الموت. فقد أضحت لحظة الموت ذات أهمية فائقة، حيث إن فراش الموت أصبح ينظر إليه باعتباره أرض المعركة للقتال الأخير اليائس، فالموت في حالة صوفيا محتم ولا راد له. والمعركة مع اليأس هنا التي يخوض غمارها الشيطان من أجل الحصول على نفس الإنسان (صوفيا) وبسبب هذا السباق بين قوى الخير والشر في الساعة الأخيرة لم يكن هناك مفر من أن يلجأ المرء إلى طلب المساعدة من عامل آخر. فحتى الساعات الأكثر حلكة في الذات البشرية الذاهبة باستسلام كلي إلى الموت بحاجة إلى المراقبة من قبل آخرين (الملائكة البشرية). فالموت الفجائي الذي لم يتخلل الرواية فاجأنا بالنهاية كأننا كنا نخشى فعلاً أن يكون الموت مفاجئاً إلى الحد القاسي الذي سارت عليه مجريات النص (العلواني). وفي هذا لا بد هنا من العودة قليلاً إلى الفلسفة، إلى الوراء، ليس إلى الفلسفة الحديثة التي لا تقيم اعتباراً كبيراً للموت بفضل اندماجها في التكنولوجيا والحداثة الاجتماعية في النظرة الجامدة إلى موضوع الدين المهم في الموت. بل إلى الفلسفات القديمة نوعاً ما فالفيلسوف الألماني أبو العقلانية إمانويل كانط عبر في زمانه أن شيئين فقط هما اللذان يملآنه إعجاباً (السماء المرصعة بالنجوم من فوقه والقانون الخلقي في نفسه). هذه النظرية الكانطية تناسب هذه الرواية من الناحية الأخلاقية للتعامل مع موضوع الموت. ولكن ثمة شيء آخر جاء في الفلسفة والأدب في الزمن السابق.
لقد عبر شعراء قرون العصر الوسيط في أوروبا عن نفس الفوبيا التي اعتمدت في هذه الرواية، وغيرهم أيضاً من الفلاسفة في تلك الفترة. فالفيلسوف هوزينغار قال إن الموضوع السائد المتمثل في الطبيعة الفانية للأشياء جميعاً بما فيها الإنسان ظهر في ثلاث صيغ رئيسية عبر عن الأولى بسؤال مفاد: أين الآن كل أولئك الذين ملؤوا العالم يوماً بأمجادهم؟. وتركز الفكرة الثانية على المشهد المخيف للجمال الإنساني وهو يذوي (هنا تنطبق الفرضية على صوفيا التي بحسب ما يستشف من الرواية هي امرأة بغاية الجمال) أما الثالثة فهي رقصة الموت، أي الموت وهو يسوق عنوة البشر من جميع العصور والأوضاع. للفكرتين الأخيرتين مكانة كبيرة في الرسم والنحت والكتابة (الرواية – الشعر) منذ القرن الرابع عشر الميلادي، فقصيدة لشاعر مجهول لا يعرفه اليوم غير قلة في العالم هو فرانسوفييون (مولود في 1431) بعنوان: “أغنية سيدات العاصفة الثلجية” وفي قصيدة “أحزان ايلمييز الجميلة” التي تندب فيها عجوز شبابها وحسنها الضائعين، وقد شكلت عمليات استحضار الأجسام المتحللة والهياكل العظمية الباسمة الراقصة في وجه الموت تجسيدات نابضة بالحياة ورحيقها الأسمى.
على هذا، فإننا نجد في رواية محمد حسن علوان (صوفيا) الكاشفة وعلى نحو جلي الصدع الذي تطور تدريجياً منذ النظرة الإيحائية في القرون الوسطى ولغاية عنده هو ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يقدر بصورة سليمة وصحيحة، فمن المستحيل اليوم أن نقدر إلى أي حد ساهم إلحاح الفرار من فكرة الموت ومن الموت الشامل والصراعات التي تناهبت ضمير البشرية وتناهبت ضمير صوفيا نفسها في طفولتها وشبابها حتى أوصلتها إلى حالة تقبل الموت بكل طيبة خاطر ودون هلع أو فزع منه، فقط التمني بميتة كريمة لا تحتاج فيها إلى مساعدة من أحد (ولولا الإجراءات القانونية لما قبلت دخول ممرضة إلى البيت لتراقبها) ولا بد هنا من التأكيد أن السياق التراجيدي لحياة صوفيا – الواقعية إلى حد كبير – والذي أبدعه علوان نفسه، هو سياق سردي تراجيدي بالغ الأهمية والروعة وحتى لو كانت تشوبه بعض الهنات المعرفية على الأرجح فإن يوسف المحيميد سبقه إلى تناول موضوع الموت ولكن من ناحية ثانية مختلفة كل الاختلاف. فالشاب علوان في النص ذهب إلى تبني فكرة أفلاطون القائلة بأن “المثل العليا” أكثر واقعية من الأشياء. فأفلاطون قصد بأننا نحن البشر نقوم بتكوين المفاهيم من خلال التجريد الناشئ من ملاحظة الجزئيات الخاصة. ومثل هذا الموقف الأخلاقي الجيد من الحياة اليومية الشديدة التعقيد يعتبر السياق الذي وضعه علوان تشجيعاً للملاحظة المباشرة عند البطل الآخر في الرواية للأشياء الجزئية. ولهذا فإنه أياً كانت خيبة الأمل عند (صوفيا) المريضة والمتروكة من قبل الآخرين بقرار شخصي، فإن هذه الخيبة نشأت بسبب فقدان التطلع نحو حياة أخرى أو ثانية. وقد تم التعويض عن هذه الخيبة عندها من خلال مركبات عضوية من الفرحة المختلفة التي لا حد لها بالحياة وهي تمثل تصورا جديدا جداً لعلاقة الإنسان بجسده الزائل من جهة ولعلاقته القائمة على السرمدية بالإيمان بالله، إلا أنها باطنياً متواجدة وبقوة غير مرئية، وهذه اللعبة ليست جديدة في التكوين السردي الروائي ولكنها صعبة الصياغة ووجودها في هذه الرواية يعني أن علوان قطع شوطاً كبيراً ومعقداً في التمرين على ضبط النص وتمتينه بشكل يكاد يكون سريعاً بعد روايته السابقة (سقف الكفاية 2002) التي كانت أقل تماسكاً ومتانة بكثير من هذه الرواية التي امتازت كذلك باللغة الشعرية التي خدمت نص علوان الجنائزي. ولولا البداية الغامضة والصعبة وغير الجذابة لكانت هذه الرواية تضاهي الكثير من النتاج الروائي العربي حالياً.
لا شك أن هناك العديد من الأحداث وقعت في حياة (صوفيا) قبل محاولتها إفراغ حياتها السابقة من المعاني والمضامين والاستخلاصات لتقف في نهاية الأمر وحيدة في شقتها المستأجرة والمؤثثة بلا أي غصن بشري آخر من الأقارب الذين لا يرد ذكر لهم في الرواية سوى حادثة موت والدها المفجعة على يد القناص الشهير وغياب أمها بعده بدقائق دون ذكر كيفية وفاتها أو غيابها ولو بدون تفاصيل كثيرة. وحتى ذكر أخيها الذي يجيء خجولاً ضمن أحد فصول الرواية يعني أن هذه المرأة المتكتمة إلى حد أقصى قررت أن تموت وحيدة مع شاهد بعيد عنها وعن عالمها السابق، وقد قررت قبل ذلك بكثير نسيان ماضيها بكامله، بل على الأرجح محوه بشكل مرعب ومخيف. فأخيلة الماضي لا تني تلاحق صاحبها حتى لو قرر العيش في النسيان، وهذا الأمر غير مذكور في الرواية إما لعدم انتباه الراوي لهذه النقطة أو لذكائه الخارق وتصميمه على إبعاد شبح الماضي من حياة (صوفيا) التي يتقاذفها سلطان الموت كل لحظة. وهذا مهم لناحية أن علوان ربما قرر في لحظة الكتابة تصوير الأيام الأخيرة من حياة بطلته. غير أن هذا التفصيل وإن يكن في الرواية موضع تلميح دون أن يكون مباشراً فقد كان يلزمه بعض التدقيق لجهة التأكد من المعلومات التي وردت على لسان صوفيا في الرواية وهي ليست رواية “تسجيلية” كما في (باب الشمس) ل إلياس خوري التي كانت قائمة على حضور الماضي بكل آلامه وبشاعته في حياة شعب كامل. ولا أريد هنا التقليل من أهمية هذه الرواية بقدر ما أريد أو أوضح سعيي إلى تصويب النص والإفشاء عن بعض أسراره المثيرة للجدل والمحيرة للقارئ. فالماضي في هذه الرواية ليس صنيع خيال كاذب تمرنت عليه صوفيا كثيراً ومحته في النهاية ولكنه كان (في حال وجد صريحاً ومباشراً) مفيداً لناحية التقصي الدؤوب الذي قد يجعل من الكاتب محللاً نفسياً يبحث في أروقة عقل بطلته عن الحقيقة بدل اتهامها بالكذب لعدم قدرته على رصد حياتها السابقة لإجلاء بعض الحقائق. هنا بالذات ترد عدة مؤشرات أجد على المستوى النقدي أنها غير منسجمة كلياً مع حالة الكشف النفسي التي تعمد الروائي الشاب من البداية اعتبارها العمود الأساس لبنائه الروائي الذي يعتمد عليه السرد. وفي حين (أنا لا أعرفها) و(لقد أدركت زيفها من الأيام الأولى، ولكن لا أريدها أن تتوقف عن صياغة الكذب) رغم ذلك فإن حالة الشفافية في تناول صوفيا لحياتها وعدم مبالاتها بالآخرين، هي الذاهبة إلى الموت بدون وجل (احتاج لجسمك شعرة شعرة، لا أبالي بالجارين العجوزين اللذين يتكلمان عن كل شيء، ولا بأهل البناية كلهم، لا يبالي الموتى بثرثرة الأحياء) وحالة الصراع المرير بين صوفيا صاحبة العقلية الغربية في التعامل مع الأشياء كافة بما فيها الموت وبين حالة الصراع الحضاري التي كانت قائمة بينها وبين الآخر القادم من الصحراء، وقبل الانتقال إلى هذا الصراع الذي تجلى في وضع المفاهيم الشرقية للعلاقات، أجد أنه من الضروري – أخلاقياً – إكمال المقطع الأول الذي بدأته حيث ترد فيه مغالطة كان ينبغي التوقف عندها ودرسها جيداً وردت على لسان صوفيا (نحن المسيحيين لا نقذف النساء بالكلام، كما لا نقذفهم بالحجارة) وهي إشارة إلى قصة مريم المجدلية التي رجمها اليهود أمام الهيكل كونها شاهدة على عدم كمالية الإنسان في مقابل الخالق الكلي الكمال. وحيث دافع عنها سيدنا المسيح بالقول “من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر” والتدقيق هنا حول السياق الاجتماعي وليس الدين، فصوفيا ليست في كل الرواية شخصية مؤمنة ولا يحق لها بالتالي تبرير حالتها بالاستناد إلى نص ديني غير واضح كثيراً بالنسبة للعصر الراهن فكيف لحالة امرأة قررت أن تموت وحيدة وقبل أن تموت تريد أن تغرق في بحر اللذة والألم دون أن تصغر أمام نفسها وأمام تاريخها الإيماني الذي يختبئ في داخلها كطفل صغير أخافته العتمة فقرر أن لا يضيء النور من أجل البقاء مستمتعاً في لذة الخوف وارتعاشاته اللذيذة.