صوفيا، رواية لمحمد حسن علوان
اختبار وجوديّ رفعاً للسأم
شاعرة لبنانية
يكتب محمد حسن علوان عن امرأة كأنه يكتب عن ملاك إذ يقول “رأيت كيف تموت الملائكة، ورأيت كيف يشبه ذلك غروب الشمس الأولى من التاريخ (…) الموت بالنسبة إلى الملائكة مختلف، ربما لا يعني أكثر من فقدان متكرّر لذاكرة الحالة السابقة!”.
هكذا يستهلّ محمد حسن علوان كلامه عن “صوفيا”، المرأة التي تواصل معها في البداية عبر شبكة الانترنت، ثم عاش معها شهرين في شقتها قبل أن تموت. يجعلنا الكاتب نشعر حقاً بأنها ملاك من خلال نظرته المختلفة إلى أمور الحياة، وقبل كل شيء من خلال أسلوبه الجميل. فلغة علوان تجذبنا تلقائياً إلى نقاوتها ومتانتها، فضلاً عن براعته في احتواء قصة على مدى مئة وخمسين صفحة داخل غرفة واحدة تقريباً. فلا الملل يدخل اسطره ولا الرتابة كلماته، رغم انه لم يحرّك بطلي الرواية خارج تلك الشقة الصامتة إلا من أوجاع صوفيا المصابة بالسرطان. إلا أنه كان يعوّض عن ذاك السكون، الثقيل أحياناً، بتلاوين لغة شاعرية جميلة كقوله مثلاً: “(…) ولربما ماتوا ميتات جماعية في ضحكات الجبال، وارتعاش الأوتار، واشتعال الفجر، وعثرات الأطفال، وكل حركة مسرحية كونية نصفق لها شجناً، ولا ندرك أن وراءها حتماً، موتاً لائقاً بملاك”.
صوفيا فتاة في التاسعة والعشرين، تعيش وحيدة أيامها الأخيرة، والراوي شاب في الثلاثين وحيد أيضاً، قبل دعوتها لمساكنتها في بيروت من اجل عيش تجربة حياتية مخالفة للرتابة. لكنه مع مرور الوقت اخذ يشعر بالذنب والشفقة حيال صوفيا المريضة، لتتحوّل مشاعره في نهاية الأمر إلى كتلة من الأفكار المشوّشة والغامضة إزاء الحياة والموت. يقول لها في الصفحات الأخيرة من الرواية: “اخبريني ماذا ستكونين؟ نجمة بحر؟ ورقة حظ؟ أوراق نبي؟ اخبريني كيف ستتحركين في الدنيا، اتركي لي وصية على شكل خريطة، اتبعها إليك كلما أوغلتُ في البلادة واخترتُ لنفسي عملاً مختلفاً في الحياة”. لطالما هرب من رتابة الحياة، وهو السبب الأساسي الذي دفعه إلى الإقامة معها طيلة شهرين. مغامرة مثيرة تنتشله من الضجر القاتل: “كان يجب أن تتحوّل كلها إلى سيرك، حتى أحافظ على المستوى الأدنى من الرضى في صدري! ربما قبل أن أملّ حتى ألعاب السيرك، استسلمتُ بقنوط لما سيأتي وحده، غريباً، مختلفاً، ينقذني من وطأة الملل، فجاءت صوفيا”.
وصف الكاتب الدقيق والعميق لتلك الحالة الصعبة ركيزة في الحبكة الروائية الجيدة واللغة المشبعة وعياً في السرد الأدبي. يقول مثلاً حول موضوع التكرار: “كنت أعشق هذه اللقطات، وأشعر بأن تكنولوجيا التصوير المسرّع تنتقم لي من رتابة الورد، و الشرانق، تنتقم لي من كل شيء ينمو ببطء، أو يتغيّر بخجل!”. وفي ذلك دعابة وطرافة ترطّبان قليلاً، ولو في سخرية لطيفة، الإحساس المأسوي: “(…) ولا بدّ من أن أنجح! يجب أن يعرف الجميع أن قضية النجاح والرسوب هي قضية حياة أو موت بالنسبة إليَّ، بغض النظر عن ذكائي أو غبائي، فلا يمكن أبداً أن أسمح بتكرار وجوه المعلمين، وملامح الفصل، ومواد سنة أخرى في حياتي (…)”. لا بد للراوي الشاب من تجنّب “الحفرة المظلمة” التي يخشى أن يقع فيها لو عاش الحدث مرتين. يتملكه شعور ببعض الجنون، فالسأم المستمر والهرب منه بلا انقطاع يضعانه في موقف حائر. ألم يرغب مرة في ارتكاب جنحة عنوة لدخول السجن بغية التخلّص من رتابة التكرار؟ إلا أن المفترض كان لدى وفاة صوفيا التي جعلته بغيابها يدرك المعاني الوجودية والحالات الشعرية الجميلة: “(…) هل تعودين؟ اتركي عندي رقم غيمة، ارسمي الطريق على جبيني بإصبعك الواهنة هذه وسأتذكرّه حتماً، أعطيني أي شيء منكِ يضيء باتجاهك يوماً ما (…) سأجيء”.
ومع ذلك، ظل الراوي متألماً من الفراغ والضجر خاتماً بالقول: “أشعر بالملل!”.