ابن عربى فى «موت صغير».. الظلال والمرايا
كاتب مصري
كما توقعت وتوقع كثيرون غيرى، توجت رواية «موت صغير» للكاتب والروائى الشاب محمد حسن علوان بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر 2017)، فى دورتها العاشرة. وكما تصورت، فإن الرواية التى تميزت فنيا وحققت هدفا صعب المنال، وهو الرواج الجماهيرى دون الإخلال بشرط الفنية، كانت ــ كما أكدت فى غير مناسبة ــ هى الأوفر حظا والأقرب للجائزة لاعتبارات كثيرة قد تدفع بلجنة التحكيم إلى منحها الجائزة، وعلى رأسها الاعتبار الفنى والاشتغال الحقيقى والجهد المبذول فى تضفير سيرة متخيلة لواحدة من أكثر الشخصيات الإشكالية فى التراث العربى والإسلامى بل التراث الإنسانى كله.
فى «موت صغير» يقارب كاتبها محمد حسن علوان موضوعا شائكا وملتبسا، تُنزَع فيه هالة الأسطرة عن الصوفى الأشهر الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، لنتعرف إلى صاحب «الفتوحات المكية» الإنسان، الذى من لحم ودم: يتزوج ويطلق، يبكى ويضحك، يحب ويعشق.. واستيحاء من مقولة ابن عربى الشهيرة «الحب موت صغير»، جاء عنوان الرواية.
سعى ابن عربى من الأندلس إلى مكة بحثا عن مفتاح روحه، ولم يكن يدرى أن «نظام» هى هذا المفتاح، أثناء حضورهما دروس عمتها «فخر النساء»، هام بها ابن عربى عشقا وهامت به، يغمزها وتغمزه، تتلامس أيديهما ويغرقان فى قبلةٍ مختلسة فى غفلةٍ من العمة؛ ليكتشف أن فى القلب أركانا موحشة، وغرفا موصدة، وسراديب تراكمت فيها مشاعر لم يتسنَ له اختبارها فى حياة الصوفية التى يعيشها.
والحقيقة أن الرواية بموضوعها وشكل كتابتها وما تطرحه من أسئلة تتصل بالراهن، تشير إلى حزمة دلالات متداخلة وأظن أن من المهم الإشارة إليها. أولا كاتب هذه الرواية، ابن ثقافة تتعامل مع التصوف والمتصوفة وبخاصة ابن عربى بتحوط واحتراز بل فى الأغلب بارتياب شديد واتهامات صريحة بالمروق من الدين والخروج عن الملة! لكن ولأن محمد حسن علوان قرر أن يخرج على المألوف وأن يستثمر أقصى ما أتيح له من معرفة وعلم وثقافة واتصال بالعلوم والمنهجيات الحديثة فى كندا فقد نجح تماما فى تجاوز هذه النظرة وتخطى الآراء المنقولة والسماعية فى ما يتصل بتراثنا.
تعلم علوان فى كندا وحاز درجة الدكتوراه فى الإدارة الحديثة! يجيد الإنجليزية وربما الفرنسية، ولهذا فهو بات مثقفا عصريا حقيقيا يقرأ وفق رؤية منظمة واختار طريق الإبداع بوعى ورهافة وقدم قبل «موت صغير» أربع روايات منها واحدة «القندس» وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر عام 2013 ونافست بقوة الروايات الخمس الباقية.
أيضا كان استدعاء الشخصية التراثية من مجال التصوف الذى شهر بانفتاحه وسماحته وقبوله للآخر يحمل دلالات ضمنية ورسائل «صامتة» (إذا جاز التعبير!) ينطقها بإرادته كل من قرأ الرواية! احتشد علوان لكتابة هذه الرواية بقراءة كل ما عنَّ له واستطاع الوصول إليه من مؤلفات ابن عربى وأعماله المخطوطة والمنشورة وكذلك ما كتب عنه، واستوعب جيدا مفردات العصر وعلاماته الثقافية والمعرفية والتاريخية واختزن ذلك كله فى وعيه وتركه ليختمر ثم يعمل قوته التخييلية فى الكتابة فيظهر النص قويا متماسكا تمثل معلوماته التاريخية وإطاره المرجعى أقل من عشرة فى المائة من المتن الروائى بينما يمثل المتخيل النسبة الباقية.
أراد علوان أن يكتب رواية عن «ابن عربى الإنسان» وليس المقدس الذى يغالى أتباعه وأنصاره والمولعين به عبر العصور فى تقديسه ولا «المدنس» الذى يغالى أعداؤه فى تكفيره و«شيطنته» واتهامه بالزندقة! بحث علوان عن السيرة الإنسانية التى لم تكتب، عن ذلك يقول علوان نفسه: «أردتُ أن أجعل ابن عربى يتحدث كما كان يتحدث ويفكر مثلما كان يفكر، ويكتب كما أراد أن يكتب، وكان طبيعيا أن تأتى لغة الرواية محملة بظلالها التراثية واللغوية المتصلة بتلك الفترة التى دارت فيها أحداث الرواية».
ورغم حجم الرواية الضخم (اقتربت صفحاتها من الستمائة!!) فإن قراءتها لم تكن مزعجة أو مملة، بل نجح مؤلفها فى الحفاظ على إيقاعها السردى ودرجة التشويق المطلوبة لعدم إفلات قارئها، وكان دائما (هذا القارئ) على موعد مع ترصيعات نصية مضفورة فى شبكة السرد الروائى من كلام الشيخ الأكبر و«جواهره الإشارية الرمزية»: «كل بقاء يكون بعده فناء لا يعول عليه».. «ما حياتى بعدكم إلا الفن».. «الإنسان عالم صغير، وأن العالم إنسان كبير».. إلخ.
أظن أن رواية «موت صغير» تستحق الجائزة بجدارة ويستحق كاتبها كل حفاوة وتقدير، وأنها أيضا تمثل استكمالا ناضجا بحيوية مدهشة لنصوص روائية رادت الطريق ذاته، مثل «لا تسقنى وحدى» لسعد مكاوى أو رواية سالم بن حميش «العلامة». هنيئا للرواية العربية وهنيئا لجمهور القراء وتحية تقدير لكاتبها المبدع محمد حسن علوان.