فصل من كتاب (سقوط التابو)
أبو حسان: مناضل أخرس من المؤلفة قلوبهم المكسورة أقلامهم
ناقد سعودي
العودة إلى الوطن ليست اختيارية دائماً، بل قد تكون خدعة تؤدي إلى السجن، كما حدث لبطل رواية (طوق الطهارة) الذي حاول محمد حسن علوان، أن يفتض صمته المزمن ليروي حكايته من خلال ابنه (حسان). بالنظر إلى أن الأب كان على درجة من الانكفاء، والخوف، والتردّد في الكلام حد الخرس، رغم ما يراود به نفسه من رغبة في الكتابة عن تاريخه النضالي، وتخليد مسيرة رفاقه، حيث يقلّب مسوداته المرتبكة قبالة ابنه بحسرة (كلها من حبر العمر يا ولدي، ولكن أخاف أن تخرج إلى الناس. في النشر شجاعة كبيرة، ما شاء الله عليك، أما أنا…لا أعرف هل كنت سأتشجع يوماً على النشر أو لا، حتى الآن، ومنذ زمن طويل، قلم الباركر الأثير هو ناشري الوحيد، مثلما أن هذا الدرْج، هو قارئي الوحيد أيضاً).
وعند الاحتكام إلى المعنى الاصطلاحي لمفهوم الرواية السياسية، لا تبدو (طوق الطهارة) على مقربة من ذلك المفهوم، حتى على مستوى المضامين لا تحقق تلك المعادلة. بل ان معجمها السياسي الذي يتميز بعبارات أدبية مسبوكة بعناية فائقة، يعاني من فقر واضح على مستوى المفردة المشتقة من حرقة التجربة، وعمق الدلالات، إذ يبدو أن محمد حسن علوان استزرع شخصية الأب المناضل القديم لإحداث مفارقة بين جيلين، جيل يكتب وينشر كل ما يخطر بباله مقابل جيل لم يدوّن شيئاً من ذاكرة أفراده أو تاريخه الجمعي، مهما كانت ذكرياته على ذلك القدر من الأهمية والخطورة، خصوصاً أن الحدث السياسي لا يحتل تلك المساحة المترامية في سياقات الرواية، بل يقع على هامش مجموعة من الحكايات المتشابكة.
إنها حكاية النضال السياسي المؤجلة، التي يُراد لها أن تنكتب، ولسبب ما من الأسباب اللامفهومة يتعطل سردها، لدرجة أن مسألة تعذُّر إنسرادها تتحول هي الحكاية ذاتها. ومن ذلك المأزق تنبثق مهمة التذكير بقيم المناضلين وعذاباتهم التي تتحول إلى هاجس مؤرق عند الإبن الذي يختلط صوته مع صوت محمد حسن علوان، إلا أن الاعتناء بتداعيات تاريخهم المجهول لا يبدو واضحا، إذ لا يشكل المناضل قيمة مهيمنة بالمعنى النقدي، ولا يشد إليه عناصر السرد، ولذلك توالت التوصيفات البرانية لشخصية الأب وكأنه داخل مختبر وعي الابن السارد (هو الذي لا يحترم في حياته شيئاً أكثر من الورق المرصوص بين دفتين، ويجمع في مكتبه، ومستودع المنزل، وسطحه، آلاف الكتب، مثل الوراقين القدماء الذين يفيضون احتراماً للكتب حد الخجل من كتابة أحدها. كان من المتوقع أن يدهشه الآن، وهو في السبعين، أن الكتاب الذي لم يكتبه هو قط، كتبه إبنه الوحيد الذي لم تبد على ملامحه سيماء الكتابة).
وفيما يبدو استنطاقاً لتاريخ الصمت يكتب الابن نتفاً من تاريخ والده الضائع، بعد أن يراكم خزينة من الذكريات، ويحاول عبثاً رص الأحداث المفكّكة ليستخلص حكاية أو لقطة نضالية ذات معنى (تسارعت ترقياته، على مدى عشرين سنة، وأصبح في يوم من الأيام كما يقول، أصغر عقيد في مديرية الأمن العام في الرياض…كان ذلك في أوائل السبعينيات تقريباً، وقد قرر أبي أن يترك عمله العسكري ويتقاعد مبكراً). ثم يواصل سرد ما سمعه من والده بعد أن يمارس عليه شيئاً من المونتاج الضروري للتخلص مما يُعرف سردياً بالزمن الميت (بعد أن ولدتُ بأشهر قليلة، استدعي أبي للمثول في السفارة السعودية في بيروت، وهناك تسلم أمراً للحضور إلى جدّة للتحقيق في بعض الشؤون العسكرية التي حدثت أثناء توليه منصبه العسكري، فودَّعنا على أن يعود خلال أيام، وكل ما يدور في خلده آنذاك أن الشأن متعلق ببعض إجراءات المحاسبة التي يتم اكتشاف أخطائها عادة بعد عدة سنوات، أو بعض المستندات التي ترك عليها توقيعه من دون تبرير يوضح السبب الذي وقعها من أجله، فاحتاجوا لاحقاً إلى سؤاله عنها. ولكن الأمر لم يكن بهذا القدر من العادية التي استجاب لها أبي بكل عفوية؛ بل كان في انتظاره أمراً لا يمكن أن يتوقعه من قضى أكثر من عقدين من عمره شرطياً في الأمن، سيارة جيب تنتظره في المطار، استقلها مع ضابط وجنديين إلى السجن العسكري مباشرة).
هكذا تُنسج رواية (طوق الطهارة) كشهادة ناقصة لتجربة غير معروفة الملامح، وكأن محمد حسن علوان يكتفي بإثارة السؤال واسترجاع ما تلاه عليه والده بـ (نبرته البطيئة الهادئة) أو الإخبار عن ضحية ترفض الإفصاح عن نبالة قضيتها، ليترك الفراغات على اتساعها، فهو لا يسمي شيئاً بقدر ما ينتأ الجراح، وبصيغة تجهيلية لا تُجرّم أحداً، ولا تحدد الجهة المسؤولة عن استلاب حرية الأب، كما ينم لا شعور خطاب السارد (أُتهم أبي بالانتماء السياسي إلى جماعات محظورة، وذات أهداف ونشاطات مشتبه فيها، وإدارة خلية من خلايا المعارضة الداخلية من خارج البلاد، مستنداً إلى خبرته الحساسة في الجهاز الأمني للدولة…ودخل أبي السجن من دون محاكمة ولا قضية. وبلغ أمي خبره وهي تعطر له البيت كل ليلة ترقباً لعودة مفاجئة، ولكنه لم يعد).
ويبدو أن محمد حسن علوان يدرك بأن مظهر المناضل السياسي، لا يفترض أن يعني الكثير في المتن الروائي، وليس من الضروري أن يوحي بشيء، ولذلك لم يبالغ في رسم ملامحه الخارجية، فيما ركز على ما يعتمل في داخله، وما تبقى لديه من آثار مادية، رهاناً على ما يمكن أن تقتدر عليه شخصية الأب المناضل من دور أخلاقي، وما قد يستدره من عواطف المتلقي. وفيما يشبه الارتداد إلى التاريخ، أخذ الأب ابنه إلى مكمن ذكرياته ليُطلعه على تاريخه المنسي (ندلف إلى المكتب المبطن بالرفوف الخشبية، وأظهر الكتب الجلدية المدموغة بتلك العناوين الذهبية العتيقة. تركني أجلس، ودار حول مكتبه الكلاسيكي الصغير، وراح يخرج من أدراجه أوراقاً مكدّسة، ومخطوطات معدة للنشر، ومعنونة فعلاً، وبخط اليد. كلها في هيئة ورقية نهائية، جاهزة لأن تتحول إلى كتاب حقيقي، ولكنها وقفت عند ذلك).
كان الأب بحاجة إلى من يسمعه، ويدوّن تاريخه، فالحديث عن الماضي بالنسبة له أشبه ما يكون بالعودة إلى ما كانه، أو ما حلم ذات نضال بأن يكونه، ولذلك صار يعرض تاريخه بلا تحفظ قبالة ابنه (وعلى مرمى بصري كانت ملفات أبي البلاستيكية المرصوصة تحوي كل ما أراد أن يكتبه ذات يوم عن تجربته القديمة في السجن: قصاصات الورق الصغيرة الباهتة التي كتبها بنفسه في زنزانته الرطبة في جدة، بأسطر مائلة، وأسهم تنظم اتجاهات السير لكلمات تائهة، ولدت في ورقة ضيقة جداً، لكنه كان يمتلك نسخاً مصوّرة منها هي نفسها، بعد أن لاحظ أبي أن السنوات التي مرت، راحت، بوقاحة، تحاول أن تمحو شيئاً من حبر الكلمات الأزرق، وكأن الزمن الذي أرداه سجيناً لم يكتف بذلك، بل تجاوزه إلى الاعتداء الصارخ على ذاكرة بؤسه، ليسرق الأدلة والأحزان).
الأدراج تنفتح كما يتفجر خزان الذاكرة. والأب يتحدث بألفاظ سياسية جافة وغير قادرة على التألق لتوصيف حرقة التجربة. والابن بكل فضوله وحواسه الطرية يلتقط ما قد يسعفه بالإجابة على أسئلة معلّقة (كان أحد الملفات يضم القصاصات الخمسين تقريباً، بينما ملفٌ آخر يحوي أوراقاً منسوخة من روايات وسير عديدة من أدب السجون، جمعها أبي خلال قراءاته عاماً بعد عام كلما وجد منها ما يتقاطع مع تجربته، ويقع فيها الألم على الألم، لعله يحشد ما يستعين به على كتاب لم يكتبه حتى الآن، وظل يبشر نفسه به سنوات طويلة، قبل أن يتغلب عليه طابع الحياة الرتيب، وتتركه أعوامه على ظهره، ويقرر تدريجياً أن يحتسب عند الله أجر هذا البوح الذي لم يحدث البتة…وفي ملف آخر كانت مجموعة من الأشرطة الصوتية، وبعض الأجندات التلفونية الصغيرة، ووريقات تحمل أسماء أشخاص وعناوينهم كان أبي يرجع إليها كلما احتاج إلى ذلك أثناء الكتابة، قال لي وهو يضحك بعصبية: معظمهم ماتوا ولم أكتب الكتاب بعد!).
وكلما ارتطم الابن بجبل الذكريات، التي لم تكن أكثر من عناوين نضالية، أو مجرد مراودات بالنضال لا أكثر، تضاعفت في نفسه حالة الارتباك، نتيجة إحساسه العميق بمعنى ما عاشه والده، وورطة ما يعانيه الآن وهو يطمس تاريخه بنفسه، أو يغص به في داخله، وكأنه يستولد حكاية من العدم (شعرت بأنه سيندم قريباً على هتكه كل هذه الأدراج أمامي بعد أن يقرأ كتابي فعلاً، فلا يجده إلا قطعاً غير متصلة من حبٍ لم يؤدَّ كما يجب أن يؤدَّى الحب، فجاء ناقص الفروض والأركان، ومات على عجل، لتنبشه امرأة بعد أن تسنّه في قبره فعلاً، وتُلبسه الكتاب، وتعيده إلى الناس. لا يمكن لهذا الشيخ الكلاسيكي الذي يكتب عن انكسارات الظلام في السجن أن يقبل مثل هذه الكتابة الدائخة، ولا أعتقد أن عينيه ستعبران أكثر من مرتين كتاب ابنه الطارئ هذا).
وبسبب كثرة الفراغات في الحكاية تبدو الدلالات الجمالية والإنسانية للتجربة مفقودة، أو ربما لم يتمكن محمد حسن علوان من استيلاد خواصها، وإبراز سجايا الأب، فالصدفة وحدها هي التي أخرجته من السجن، لتعميق حالة الفشل. ويبدو أن والدة (حسان) هي الوحيدة التي لم يكن يعنيها من كل ما يجري إلا تحرير زوجها من السجن بأي ثمن، لكن الأب لم يكن مرتاحاً للكيفية التي انتهى بموجبها تاريخه النضالي، كما يتأولها إبنه بعبارات لا تخلو من الحيرة (ما زالت أمي تحتفظ بالورقة المرتعشة تلك في خزانة ثيابها، رغم أن أبي طالبها بأن تتخلص منها مراراً لأنها تذكره بأيام تعيسة، ولكنها لم تلبّ مطالبه، وقالت له مرة ”لو كنت تعلم كيف كنتُ، ثم كيف صرتُ بعد هذه الورقة لعرفت لماذا أحتفظ بها“، وتقيم أمي طقوس امتنان رهيبة لقطعة الورق تلك…مرت أشهر على تلك الورقة، وخرج أبي محض صدفة قدرية تلت مقتل الملك فيصل في الرياض، إذ لم يلبث أن أصدر الملك خالد من بعده عفواً عن زمرة من المسجونين في قضايا سياسية، بتهم حزبية مختلفة، فخرج أبي بلحية طفيفة، وحزنٍ مؤقت، ولكنه مُنع من مغادرة البلاد بعض الوقت).
السجن كمكان للخوف والرعب، ليس هو المسؤول الأوحد عن عزلة وارتباك الأب. ولا شك أنه حدثٌ عصيٌ على النسيان، ولا يمكن إقتلاع آثاره من النفس مهما تراكمت الأحداث بحلوها ومرّها، وهو بالنسبة للسجين مكمن عميق للتناقضات العصية على الفهم. ومهما حاول السارد التخفيف من وطأته بأرق الكلمات، حتى الخروج من الأسر المادي لا يعني الإنعتاق من آثار السجن النفسية، وهكذا كان خروج الأب من السجن بتلك الطريقة أشبه ما يكون بالهدية المسمومة، التي قضت على كل آماله بالنضال، إذ خرج بعد ذلك العفو من سلالة المناضلين إلى فئة المؤلفة قلوبهم، المكسورة إراداتهم.
هذا ما استوعبه وعي الابن من حكاية والده، وبمقتضى تلك المفارقة فهم سر صمته العميق، وارتكاساته الدائمة إلى الماضي (أبي الذي روى لي ذلك مراراً، لم يحدثني مرة واحدة عن مفصل الأمر، هل كان بالفعل على علاقة بخلية معارضة؟ وهل كانت له أنشطة سياسية بشكل مباشر أو غير مباشر؟ ربما كان الأمر يمسُّ جانباً حرجاً من شخصية أبي، وصمته المقصود هذا هو ما جعلني أذهب غالباً إلى تفسيري الشخصي، وهو أنه انساق فعلاً وراء تنظيم ما، قومي الطابع في الغالب، استجابة لمتطلبات المرحلة، ثم تراجع عن ذلك، وندم عليه، وأحياناً أذهب إلى أن هدية الملك قد نجحت فعلاً في تأليف قلبه، فوقع بين سندان مبادئ المخالفة، ومطرقة امتنانه الشخصي للملك خالد آنذاك، فأصبح يتحاشى التطرق للأمر، وتعوّد هذا حتى الآن).