arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى المقالات الإعلامية

الرواية تتفوق على الأعمال الفكرية.. محمد حسن علوان:

نبالغ في إضفاء هالة على القدماء وكأنهم ليسوا بشراً مثلنا!!

صحيفة الجزيرة السعودية - المجلة الثقافية

حوار/حمد الدريهم

لم يكتفِ محمد حسن علوان بسقف موضوعات الحبّ في رواياته؛ بل استفزّه رحيل المتصوف محيي الدين ابن عربي؛ ليقبض عليه في روايته الأخيرة: «موت صغير» الصادرة عن دار الساقي، عن الرواية واستعادة التراث العقلاني العربي و إلهام المبدع و غيرها من الموضوعات، حاورناه ليرسم جمال إجاباته عبر المجلة الثقافية، فإليكم الحوار:

* المتابع بدقة للمشهد الثقافي العربي الراهن يجد اتجاهاً أو محاولات جادة لإحياء التراث العقلاني العربي. بم تفسّر ذلك الاتجاه؟ وهل روايتك امتداد أو صدى لذلك الاتجاه؟

– يوجد تفسيرات مختلفة لهذا التوجه قد يكون أعلاها أن هناك حراكاً ثقافياً مؤسسياً باتجاه النهضة الفكرية، وقد يكون أدناها أنه مجرد انعكاس لثقافة الباحثين والأكاديميين المشتغلين بهذا التراث. بالنسبة لرواية «موتٌ صغير» فلم أكتبها امتداداً لاتجاه بحثي ولا صدى لأي حراك فكري جمعي. فالروايات التي أكتبها مستقلة ولا يحرّض على كتابتها سوى محاولتي الإبداعية ورؤيتي الفنية فقط.

* ألا يتأثر إلهام المبدع بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالأجواء العامة المحيطة به: ثقافية، اجتماعية، فكرية.. الخ، التي قد تحرض على محاولاته الإبداعية ورؤاه الفنية؟

– بلى، ولكن علينا أن نفرّق بين أن يكون الكاتب متأثراً بتوجه عام وأن يكون جزءاً حركياً من المشروع. والرواية بالذات من أكثر الأجناس الأدبية صعوبة في محاكمة انتماءاتها وتوجهاتها كونها معقدة بطبعها وتختلط فيها الأصوات والأفكار.

* هل تعتقد بأن الرواية أو العمل الإبداعي – بصورة عامة – أكثر إسهاما وقبولا لدى القارئ في إحياء ذلك التراث العقلاني العربي من الأعمال الفكرية التي تجابه عادة بالصدام والمواجهة؟

– الرواية تتفوق على الأعمال الفكرية بقدرتها على تجاوز النخب الفكرية والانتشار في مساحات أوسع، وكذلك في قدرتها على استغلال عنصر التخييل كلغة حوار أبلغ مع وعي القارئ. ولهذا فإني أجدها قادرة على ردم الهوة بين القارئ العربي وتراثه العقلاني إذا كان هذا هو الغرض من كتابتها، ولكن ليس بوسع الرواية لعب هذا الدور وحدها دون تأسيس نظري جاد من الأعمال الفكرية. ومتى غابت الأعمال الفكرية وجد الروائي نفسه مضطراً للعب الدورين معاً، وقد يخفق في أحدهما فلا يكتمل العمل.

* كيف ترى حالة الموازنة ما بين الأعمال الفكرية والإبداعية من أجل استنهاض ذلك التراث العقلاني في المشهد الثقافي العربي حالياً؟

– كل كاتبٍ ومفكرٍ وباحثٍ يبحث عن عائده من الكتابة سواءً كان عائداً شخصياً أو خارجياً، معنوياً أو مادياً، أو خليطاً معقداً بين عوائد مختلفة لعملية الكتابة. المؤسسات الثقافية المعنية بإنعاش الثقافة والإبقاء على دورها حيوياً ونافعاً تستطيع أن تحقق حالة الموازنة هذه عن طريق استحداث العائد للكتابة إن لم يكن موجوداً لاسيما في الأعمال التي تجد صعوبة في الرواج. وفي ظروف ثقافية يمر فيها أي مجتمع قد تجد بعض أنواع الكتب رواجاً طبيعياً دون الحاجة إلى دعم مؤسسي أو تسويق ما. هذا ما يحدث الآن بالنسبة للرواية في مجتمعاتنا العربية. ولكن ليس بالضرورة أن هذا الرواج يأخذ من مساحة الأنواع الأدبية الأخرى أو الأعمال الفكرية النظرية. بل إن الرواية شرعت الأبواب أمام شرائح قرائية جديدة، بمعنى أنها وسّعت دائرة القراءة ولم تقم بسحب البساط من أي نوع آخر.

* المتأمل في بعض الأعمال الإبداعية (الروائية) الأخيرة يجد اتجاها لتناول موضوع الصوفية من أضابير التراث العتيقة، فعلى سبيل المثال هناك «قواعد العشق الأربعون» للروائية التركية إليف شافاق التي لاقت انتشارا واسعا، ولدينا رجاء عالم التي كتبت «طوق الحمام».. وأخيرا ًبروايتك «موت صغير». فهل الصوفية هي الحل المثالي لآلام الإنسان المعاصر الذي مزقت روحه نزاعات ما بعد الحداثة؟

– لم تكن الصوفية هي الملهم لكتابة رواية «موت صغير» ومن قرأها سيجد ما حوته من العلوم الصوفية أقلّ من أن توصف الرواية بها. الحقيقة التي أفصح بها كروائي لأول مرة أن ما شدني لكتابة الرواية هو حالة الرحيل الدائمة التي عاشها محيي الدين بن عربي، بغضّ النظر عن مكانته المعروفة في التراث الصوفيّ. فهذا الرجل لم يتوقف عن الرحيل منذ شبّ عن الطوق من الأندلس إلى المغرب ومصر والشام والحجاز والعراق والأناضول حتى مات أخيراً في دمشق. وعندما قرأت في سيرته تساءلت في نفسي ((ترى ما الذي رآه هذا الرجل طيلة ترحاله؟)). ولما لم تكن هذه الرؤى موجودة في أي من كتاباته، إذ أنه لم يدوّن بنفسه سيرته الذاتية، قررت تخيّلها وكتابتها.

* من يقرأ روايتك يستمتع بعمق بدقة تفاصيل القبض على الزمان والأماكن المختلفة التي عاش فيها ابن عربي، كيف يضمن الروائي القبض على الزمان والمكان بدقة في روايته؛ خاصة إذا كان زمنا تراثيا؟

– من الصعب الإجابة على سؤال يتعلق بفنيات الكتابة لأنها كثيراً ما تكون غير مفهومة حتى بالنسبة للكاتب نفسه. أستطيع أن أقول إن القبض على هذه التفاصيل الزمانية والمكانية كان من أصعب التحديات التي واجهتني في كتابة رواية «موت صغير»، واضطررت لقراءة مئات كتب التاريخ ودراساته الأكاديمية باللغتين العربية والإنجليزية حتى أستطيع أن أكتب ما هو مقنعٌ تاريخياً وصادقٌ فنياً ومثرٍ لأجواء الرواية.

* تقول في صفحة 217 «…. استعادت ذاكرتي وشايتي السابقة بابن رشد وما حل به بعد ذلك … «. هل كان ابن عربي السبب الرئيس الذي لا نعلمه في محنة ابن رشد؟

– لا، هذا من الخيال الروائي. كما ذكرت أعلاه فإن سيرة ابن عربي المعروفة لا تشكل أكثر من عشرة بالمائة من الكتاب والبقية من خيالي أنا. وحتى سيرة ابن عربي اختلف فيها الرواة واكتنفتها جوانب غامضة غير مفسرة. بل إنه يوجد سنوات من عمره لم يعرف أحد من المؤرخين أين قضاها وكيف كانت أحواله فيها. إنها سيرة مفككة وغير مترابطة التقطها المؤرخون التقاطاً من ثنايا كتبه ومخطوطاته، وجلّها يركّز على سيرته العلمية الصوفية من شيوخ وتلاميذ وغيرها وليس أحواله اليومية وظروف حياته الاجتماعية. يذكر في سيرته أنه لم يكن معجباً بأفكار ابن رشد الفلسفية دون تفصيل واضح عن سبب ذلك النفور، ولربما كان نفوراً طبيعياً بين الفلسفة التي تقدم العقل والتصوف الذي يقدم القلب. على كل حال، كروائيّ قمت باستخدام خيالي لأحوّل هذا إلى حدث دراميّ كالوشاية.

* ألا تعتقد بأن المخطوطات في بداية كل سفر طويلة وكان يمكن الاكتفاء باقتباسات ابن عربي, كي لا تشتت القارئ ؟

– المخطوطات في بداية كل سفر تحكي قصة موازية للقصة الأصلية. القصة الموازية هي كيف وصل إلى عصرنا الحديث مخطوط يحوي سيرة ابن عربي التي تخيّلتُ أنه كتبها بنفسه. أما القصة الأصلية فهي محتوى هذه المخطوطة.

* ألا تخشى بأن ترسم روايتك صورة ذهنية واحدة لابن عربي لدى ذهن المتلقي في الثقافة العربية مستقبلا؟

– لا أظن ذلك. ابن عربي من أكثر شخصيات التراث العربي والإسلامي جدلاً بسبب آرائه الحادة وكثرة ما نشره من كتب. وقد تناولته جميع الأطياف الإسلامية بالدراسة وطرحت حوله آراء مختلفة. وكذلك فإن الاهتمام الاستشراقي بابن عربي كان وما زال كبيراً جداً وما زالت الأطروحات العلمية حول أفكاره تصدر يوماً بعد يوم من الجامعات ودور النشر العربية والغربية معاً. وبالتالي، فإن رواية واحدة مثل روايتي لا يمكن أن تحدث هذا الأثر الذي ذكرت في سؤالك.

* هل يمكن أن نرى روايتك «موت صغير» في عمل درامي تاريخي تلفزيوني؛ لاسيما أنها طويلة وغزيرة بالتفاصيل الدقيقة التي قد تساعد على سهولة كتابة سيناريو وحوار لها لا يخرج عن إطار الرواية، فهل تحب أن تراها كذلك؟

– لم يعرض عليّ هذا من قبل أي جهة ولكني سأنظر في ذلك إذا شعرت أن الجهة التي تعرض ذلك تملك القدرة على صناعة عمل دراميّ نوعيّ وليس مجرد إنتاج موسمي لا يبقى في الذاكرة.

* ما الاختلافات بين تقنيات السرد للرواية القابعة في أعماق التراث والرواية الحديثة؟

– تجربتي حديثة في الرواية التاريخية ولم أكتب إلا واحدة. ولكني تعلمت من كتابتها أن الأمر يستغرقني وقتاً أطول للاندماج في عوالم الرواية. الأمر لا يتعلق فقط بتفاصيل الزمان والمكان، بل في طبيعة الحياة الاجتماعية، مستوى الوعي والإدراك، الحالة الأنثروبولوجية والثقافية، القيم الأخلاقية وأساليب التعبير. ما يزعجني كثيراً في بعض الروايات التي أقرأ أن أجد الكاتب أو الكاتبة يحاول رسم شكل المكان والزمان بشكل مفرط ثم يجعل الأبطال يقولون كلاماً أو يتصرفون بطريقة وكأنهم يعيشون في القرن الحادي والعشرين. ويزعجني أيضاً عكس ذلك، عندما نبالغ في إضفاء هالة على القدماء وكأنهم ليسوا بشراً مثلنا.