arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى المقالات الإعلامية

فاسألوا علوان

منتدى وطن الشمس

حوار/ أعضاء منتدى وطن الشمس

الجزء الأول

بداية الأديب محمد حسن علوان، ما الذي يمكن أن يقوله فيما لو طلبَ منه محاوره التحدّث عن ذاته قبل أن يصبحَ كاتباً؟ وقبلَ أن يخوض غمار هذا اللقاء بثوان؟

قبل أن أصبح كاتباً كنتُ طفلاً ذا سعة تخزينية كبيرة نسبياً. أتأمل حركات الوجوه ورنات الكلمات وأحاول أن أرتبها في داخلي بالطريقة التي تجعل الحياة أوضح والروح أكثر قراراً. كانت تلك كتابة أيضاً، ولكنها غير محفوظة. الحياة قبل الكتابة ليست حقبة زمنية شديدة الاختلاف، فلربما مارسنا الكتابة الذهنية طويلاً قبل أن يمس القلم سطح الورقة. وبذلك لا يمكنني – عندما أناقش ذاتي – أن أحدد اللحظة التي صرت فيها كاتباً.

قبل أن أخوض غمار اللقاء كنتُ أتمنى أن تصلني الأسئلة قبل سفري حتى لا أضطر إلى تأخير الإجابة فأبدو بذلك أقل سعادة بها مما أنا عليه فعلاً. الآن أنا أقتنص الأوقات القصيرة بين فندق وآخر محاولاً أن أكون معكم في الجوار بينما أنا لستُ كذلك. سأكون متأخراً رغماً عني. تحكمني قوانين مكانية وزمنية أقوى بكثير من حرصي على التجاوب السريع.

بدءاً: حنين، صحراء، وأنا جميعنا تركض بأرواحنا تساؤلاتٍ ولِدت بداخلنا منذ الوهلة الأولى التي قرأناك وتابعنا فيها أدبك، وفنونك، وقلبك الفاخر. اللغة هي الداعم الفعلي لنصوص علوان، إضافة إلى الواقع الجديد الذي مارسه علوان بأسلوبه الأدبي المختلف فما الذي أسهم في تشكيل لغتك الأدبيّة من كتّاب وأدباء، ومن أعمال أدبيّة، وثقافات أخرى؟

ليتني أدري. ولّى قديماً ذلك الزمن الذي كنتُ فيه قادراً على تعقّب رائحة الكاتب الذي قرأت له بالأمس فيما أكتبه من غد. أعتقد أن سنواتٍ قليلة فقط من الممارسة الحيوية للكتابة كفيلة بأن تحوّل الكاتب إلى خليط معقد من المواد الأولية للكتابة: كالكتب التي يقرأ، والأشخاص الذين يجالس، والمدن التي يزور، والمرأة التي يحب، والتحديات التي يخوض، والمشاعر التي يتقلب عليها بين يوم وآخر. هذا إذا كانت ممارسة الكتابة حيوية فعلاً، وإلا فالكثير من الكتاب قد يظلّ مطبوعاً على نسق وسجية لا يتغيران، وقد يكونان رائعين. فالتغير والتجديد ليسا بالضرورة بشائر كتابة جيدة.

الكثير من القراء عندما يسألون عن الكتّاب الذين قرأتُ لهم يسألون لظنهم أن هؤلاء الكتّاب هم مفاتيح الكتابة. والحقيقة أن انفعال الكاتب بكاتب آخر ليس شرطيّ التحقق في كل حالة. الكثير من الكتّاب أبدعوا أعمالاً أنيقة بتاريخ قرائي هزيل فعلاً، والعكس صحيح. وإذا كانت القراءة الجيدة شرطاً من شروط الكتابة الجيدة بعدها فترى كيف كُتب أول كتاب جيد في التاريخ؟ هذا لا ينفي أهمية القراءة في تنشيط خلايا الكتابة داخل الشخص المستعد للكتابة أصلاً، ولكني أكرر أنها ليست ضرورة.

الكاتب حين يتجوّل ما بين الأصناف الأدبية يمتزجُ بأساليب مختلفة، وتنمو شخصيته في صنف، وقد تضعفُ بصنف آخر! تراه أين يجد علوان نفسه بدون قيود: في الكتابة الأدبية؟ أم بالمقالات الصحفية؟

إنهما صنفان مختلفان من الكتابة. بالنسبة لي الكتابة الأدبية هي حالة روحية ونفسية شغفت بها واعتدت على ممارستها لأشعر بالسعادة والرضا، بينما المقالات الصحفية أشبه ما تكون بالتدوين الدوريّ لما أقوم به يومياً من تفكير سواءً على مستوى تخصصي الأكاديمي في الإدارة والتسويق، أو اهتماماتي العامة في علم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة. الكتابتان لا تتداخلان إذن ولا تأكلان من وقت بعضهما.. في حالتي أنا على الأقل.

في حوار سابق مع علوان أجرته صحيفة الثورة اليمينة قلت: ”.. بينما الرواية أشبه ما يكون بمشي طويل على وتيرة واحدة“، من وجهة نظر علوان واستناداً على قوله السابق، كيف يستطيع الكاتب المحافظة على هذه الوتيرة دون أن تندثر مع مرور الزمن، واختلاف المزاج النفسي، أو الكتابي؟

صعبٌ جداً. وأرجوك إذا ما وجدت إجابة مجربة لهذا السؤال أن تفيدني. لقد أخفقت كثيراً في الحفاظ على هذا الوتيرة الشقية ولم أفلح إلا ثلاث مرات فقط.. أنجبت ثلاث روايات، بالصدفة!

سقف الكفاية تكاد أشبه ما تكون بالفتيل الذي لا يمكن أن يخفت ضوءه من روح كل من قرأوها.. فبنظرك ”مها، وناصر“ في سقف الكفاية إلى أيّ مدى يمثلان الشاب والفتاة السعوديّين؟ وهل هما ظاهرة كتابية؟ أم أنموذج لشريحة من المجتمع صبَّ الكاتب عليهما جام غضبه، وحزنه العميق؟

الرواية ليست بالضرورة دراسة اجتماعية موثقة.. رغم أنها (قد) تكون إذا أرادها الكاتب كذلك، وهذا ما لم أرده لسقف الكفاية. الهوية الاجتماعية لناصر ومها، كسعوديين، لا تعني أنهما يمثلان شريحة أو يختزلان شعباً، والذي يقرأ الروايات من هذا المنظور الضيّق سيظل يرتكب خلطاً متكرراً. فليس كل الروسيات (آنا كارنينا) ولا كل المصريين (أحمد عبدالجواد). الهوية الإنسانية للبطل تأتي أولاً ثم تعقبها الهوية الاجتماعية كإضافة فنية تمنح الشخصية أبعادها الواقعية.

حب يولد في الشوارع الخلفية، يهدده الفقر، الجهل، والموت… أوجد علوان في ذلك بذرة لرواية جيّدة؟ ثم ما البذور الأخرى الصالحة لأن تكون برأيك الشخصي رواية تعكس صورة مختلفة للمجتمع السعودي؟

هل هذا دور الروايات أصلاً؟ هل تُكتُب الروايات من أجل تلميع الدول، وتحسين الصورة، وتجميل مجتمع؟ الرواية التي تكون مجرد (لوحة إعلانية) لمجتمع ما هي جهدٌ ضائع، لأنه كان يمكن تحقيق هذا الهدف الإعلاني بوسائل أسهل بكثير من كتابة رواية! وعندما نصرّ على ذلك فنحن نعدّ الرواية وسيلة لتحقيق غايات مختلفة، بينما أراها أنا غاية يجب أن تبذل لها الوسائل.

في ”طوق الطهارة“ معظم من أغرم بهنَّ البطل ”حسان“ أمهات ومطلقات، هل هناك رسالةً ما أراد علوان إيصالها للقارئ من خلال هذا التمركز العشقي لأبطاله؟

لا، لا توجد أي رسائل. العلاقات بين الأبطال تُصاغ بالطريقة التي يمكن أن تفسر شخصياتهم/هن فقط.

صيغة الأنا هي الطاغية على كتاباتك!، ألا ترى أنّ استخدام هذه الصيغة يكمّم أفواه الشخصيات الأخرى، و يجعلها عيية وغير قادرة على التعبير عن نفسها بحرية؟

الرواية متعددة الأصوات هو نوعٌ مختلف من الروايات لم أكتبه بعد وقد لا أكتبه. أعتقد أن الرواية وحيدة الصوت هو نوع الروايات الذي أحب كتابته حالياً، وهو الذي يتيح التجول في دواخل شخصية واحدة، وتأمل الحياة من خلالها، وبالتالي لا يكون للشخصيات الأخرى أهمية لأن الرواية ليست عنها في الأساس، ووجود هذه الشخصيات كان لضرورة تبيان أثرها على الشخصية الرئيسة، وكيفية انفعال البطل بوجودها في حياته ولا أكثر.

(دائما ًحاول أن تجعل المرأة المميّزة العظيمة الاستثنائية صديقتك، وليس حبيبتك، سستَمتِع بـصداقتها أكثر مِن حُبّها، تَميّزها سيؤذيك، سيؤلمك، وفي المُقَابل لا أريح، ولا أجمل مِن ْ حُب امرأةٍ عَاديّة تَجِدُهَا في كُل ّ مَكَان). بنظرك هل تعكس مقولتك تلك عقدة الرجل الشرقيّ وخوفه من المرأة المتفوقّة عليه بشكل من الأشكال؟

المعذرة، ولكني لم أسمع بهذه العقدة من قبل. ولكن العبارة لا تعكس ذلك على أي حال، والمقصود في رأي الشخصية التي جرت على لسانها هذه العبارة هو أن المرأة المميزة عندما تصبح معشوقة فإن ضياعها يكون أشدّ إيلاماً من المرأة العادية التي يمكن تعويضها.

مقالاتك (التدوين و مآرب أخرى، و الديماغوجية تبعد المدونات عن هدفها الأسمى، أثارت حفيظة بعض المدوّنين ورأوا فيها أنّك تدعو إلى إغلاق نافذة الحريّة المشرعة أمامهم بدعوتك إلى تقنين ومراقبة المدونات، و قال بعضهم: (أنّه يصعب عليك فهم التدوين مادمت لم تخض غماره) سابقاً قمت بالرد عليهم بأساليب وقتية صاحبت الحدث وانتهى أثرها، أو لنقل ذاب مع الوقت هذا الآثر، الآن ما الذي يمكن أن يقوله علوان لهم بعد كل هذا الصمت؟

لا جديد أقوله أكثر مما قلته في المقالتين، ولو أن رأيي تغيّر لذكرت رأيي الجديد هنا أو في مقالة أخرى. الديماغوجية مرضٌ نقديّ أتمنى أن يسلم منه التدوين، وكذلك ما زلتُ أتمنى أن تتحقق للتدوين معاييره الفنية والفكرية التي تميّزه كفن وممارسة فكرية عن غيره من الخواطر والمقالات التي يكتبها بعض المدونين ويعدّونها (تدويناً) لمجرد أنها نشرت في مدونة. وقد كتبتُ مقالة ثالثة بعنوان (التدوين مرة أخرى..) أوضح فيها لمن عارضني أني لم أقصد تحديد (مجالات) التدوين بل (أساليبه). والمقالة موجودة في موقعي وموقع صحيفة الوطن.

في الأونة الأخيرة نتلمسُ كمتابعين لشرائح النقاد، والقراء اتهامات موجعة، وأخرى أشبه بإحراق الصورة الحقيقية للكتّاب بمجتمعنا. فالبعض قال أن علوان ليبرالي! فما رأيك؟ وهل الليبرالية برأيك الشخصي في مجتمع محافظ كالسعودية غدت موضة؟، أم تهمة، أم تيار، أم أنّها تضخّمت لتصبح حزباً لا أم ولا أب له لكن له أفكار ظاهرة عياناً للجميع!؟

أنا غير متحمس للانتماءات. الإنسان عندما يفكّر ويشعر فهو أوسع بكثير من أي تصنيف أو قالب، أما إذا أصرّ أن يصنّف نفسه تحت أحد التصنيفات الدارجة فقد حكم على نفسه بالثبات على حالة فكرية ومنهجية واحدة مهما كانت واسعة، واختزل كثيراً مما كان يمكن أن يفكر فيه، أو يشعر به، لو ظل خارج حدود التصنيف.

الليبرالية السعودية بالتأكيد تأخذ شكل التيار الآن، وقد تحققت لها شروط التيار فعلاً. وبالتالي فقد تجاوزت مرحلة (الموضة)، ونتمنى ألا تتحول إلى (تهمة) لأن في ذلك حجراً على حرية التفكير، كما أن النظام السياسي السعودي لا ينصّ على الحركة الحزبية وبالتالي لا يمكن أن تكون (حزباً).

هناك مقولة تقول : ”إذا تعرّفت على شاعر خارج ديوانه فلا تلومنّ إلا نفسك!“ فمارأيك بهذه المقولة؟، وهل ترى أنّ أعمال الكاتب، أو الشاعر هي مرآة تعكس بالضرورة صورة لحياته الواقعية، وتجاربه، وشخصيته الحقيقية؟

أؤمن أن شخصية الإنسان وسلوكه لا يتصلان بالضرورة مع نتاجه الفكري والإبداعي. وبالتالي لا يمكن أن تكون الأعمال الأدبية مرآة الكاتب إلا في حالة أن أرادها هو كذلك.

الجميع دوما ما يكرّر العلاقة الوطيدة بين أي دفتي رواية تصدر لعلوان، وبين الثلاثية المستغانمية.. أنا لا أشكُّ أنك قرأت لها، ولكن لماذا جاءات حروفك متأثرة بها دون التأثر بفكرها؟، وهل تلتقي دوما حروفكما بهذه الشاعرية الآخاذة من قبيل الصدف الأدبية؟

عندما قرأت لأحلام مستغانمي لأول مرة شعرت أن كتابة الرواية بهذه الحالة التي تحضر فيها اللغة في المقعد الأول ممكنة، وباشرتُ كتابة روايتي. وهذا هو تأثيرها عليّ الذي طالما حفظته لها. ولكن، حفظاً لحقوق مئات الكتاب الآخرين عليّ وعلى كتابتي، أقول دائماً أنها لم تكن وحدها.

قلت في سقف الكفاية: ((الرياض مدينة كبرى نصف هواتفها عشق، ونصف هذا العشق مراودة)) بنظرك كيف لهذه المدينة أن تخبئ كل هذا الحب الخافت في داخلها
وتتجلى ملامحها قاسية حادة؟

لا أدري. لو أجبنا على السؤال الذي تطرحه كل مدينة.. لأصبحت الجغرافيا أسهل!

الوجع، الحزن السرديان مضاف لهما نكهات الحب هل هذه منابع إبداعك اللغوي والفكري؟، أم أنَّ علوان يخبئ خلفها أشياء أخرى؟

ما دمت (أخبئ)، فلماذا تظنني سأجيبك هنا وأفصح عما أخبئه؟ 🙂

برأيك، هل توُجع إرتعاشة الأحلام يا أستاذ محمد!؟

توجعني إذا أسأت تقديرها وصياغتها ومساءلتها عن مدى جديتها في التحقق يوماً ما. بالنسبة لي، الحلم الذي لا يقبل التحول إلى مشروع عمل.. هو مجرد شبهة!

الجزء الثاني

الأديب محمد حسن علوان من مواليد 27 أغسطس 1979م حاصل على شهادة الماجستير تخصص إدارة أعمال من جامعة بورتلند في الولايات المتحدة الأمريكية. سنوات الغربة ماذا أخذت وماذا أعطت للأستاذ علوان؟ وهل تحقيق الطموح آنذاكـ يعدُّ مسكّناً لتأثيرات هذا الشعور؟

الكثيرون ما زالوا يحاكمون الغربة بمفهومها الكلاسيكي، الألم والحنين والفراق والهوان. وأنا شخصياً أعتقد مفهوم الغربة المعاصر تغيّر كثيراً بتطور تقنيات الاتصال، ووسائل السفر، وحقوق الإنسان، وغيرها من المظاهر العولمية المتزايدة. شخصياً، لم أمرّ بالتجربة المتوحشة للغربة التي تخلق المعاناة في رحلة دراستي بل كانت امتداداً إيجابياً لتجارب سابقة من السفر. الحياة خارج المألوف من الأماكن يفتح مساحة للاشتغال النقدي والعقلي على المقارنة والتساؤل وإعادة تشخيص المعتاد، ومحاكمته أمام الآخر المختلف.

وعطفاً عليه.. عمليات الإبتعاث إلى الخارج والنظرية العامة التي تكونت لدى المجتمع عنها جعلت منها مشروع فردي أكثر مما هي تطلع قومي ما رأيكـ في ذلك؟

لم أفهم أبعاد سؤالك. ولكني وجهة نظري حول الابتعاث إيجابية رغم بعض الأخطاء التنفيذية التي تتناقص تدريجياً. أعتقد أن إزالة العوائق المادية التي تعزل المواطن عن التجربة المثرية والدراسة المفيدة لا يمكن إلا أن تكون مشروعاً قيماً ومهماً.

لاحظت من خلال قراءاتي لـمدوناتكـ بأنكـ تملكـ مخزون معرفي هائل ولديكـ إلمام بـالمصطلحات الأعجمية هل هذه الدراية آتية من المكتبات المحلية أم من أمكنة أخرى تمكنت من خلالها التأليف بين ثقافتين بـصورةٍ تخدم بها أطروحاتك؟

أنا لا أدوّن، فربما كنت تقصد المقالات إذن. أشكرك على (زعمك) بأني أملك مخزوناً معرفياً هائلاً، وأظنك بالغت كثيراً في ذلك! بالنسبة للمصطلح الأجنبي فهو انعكاس طبيعي لتحصيلي الأكاديمي، واستخدامي للمصطلح الأجنبي هو لضرورة التبيان والتأصيل المعرفي وتسهيل البحث بعيداً عن التعصبات اللغوية التي يرفع رايتها البعض من منطلقات آيديولوجية متحسسة سلفاً من الثقافات الأخرى وتبدو عليهم أعراض تضخم الذات القومية. بلا شك أن تعلم لغتين يتيح الانفتاح على ثقافتين، ولكنها ليست ضرورة. فرب متعدد اللغات تجده أحادي الأفكار، والعكس صحيح.

يقال بـأن التمرد شيء مطلوب في طبيعة الكاتب والذي قد يوظفه في روايةٍ ما يتم استشعاره لاحقاً عند المتلقي، فـ التمرد ماهو إلا طبيعة إنسانية دفعته على مدار التاريخ للتطور والابتكار والتجديد ولدينا أمثلة حاضرة في هذا… ولكن أتضح لنا مؤخراً أن مفهوم التمرد أخذ منحنى آخر وأصبح ذا تأثيرٍ سلبي في بعض الروايات، كونها اختصرته في كلِّ مخالفة تؤيد التضاد للمألوف الأخلاقي عامةً.. بـرأيكـ ما هي أسباب هذا التحول؟

التمرد معيار نسبي. وما تراه إمعاناً في التمرد ومجاوزة للحد المقبول لا يراه الآخر كذلك. أعتقد أن مستوى الإجادة في الروايات، سواءً في الفكرة أو الأسلوب، هو شأن يفصل فيه القارئ وحده. والعمل الجيد سيجد قراءً بحسب مستوى جودته، والعمل الأقل جودة سيتلقى الحكم مباشرة من القراء (عددهم ونوعهم) دون الحاجة إلى تنظير نقدي. وعندها يُفتح باب النقاش النقدي لمعرفة أسباب الرداءة وما إذا كان سببها المبالغة في التمرد أو غيره. ولاحظ أنه هنا قد يخرج التنظير من المساحة الأدبية إلى الاجتماعية وغيرها.

عودة إلى سقف الكفاية، هي رواية عزفت على المواجيد إيقاع كلِّ الجهات التي وصلنا إليها ولم نصل في مدينة المحظورات، فـثورة الشاعرية ضمنها كانت حاضرة بشكل ملحوظ وبقوة، وكذا ظاهرة الوفاء أحالتها من تجسيد بشري محدد إلى روح إنسانية تتفاعل مع عناصر الزمن من أجل البقاء، (ناصر) كان أحد أبطال هذه الرواية والذي كان بـمثابة الامتداد الرئيسي في مجمل صفحاتها، ابتداءً بقصة الحب التي جمعته بمها في ذاك المجتمع المغلق، ومروراً باقتفاء الآثار على ذاكرة الرمل والتي غالباً ما تعريها الرياح من الأمنيات، ووصولاً إلى المنفى حيث شريك الغربة الذي كان يحاول تخليصه فـ كان يصبُّ الزيت لـيطفيء النار ..! تراه إلى أيِّ مدى أثرت كثرة المحظورات في الواقع على رواياتك؟

لا أدري. الإنسان ينعجن بمدينته التي يعيش فيها حتى تتوارى التفاصيل تماماً، فلا يدري أين تنتهي المدينة وأين يبدأ هو. الإجابة على سؤالك قد تحتاج إلى تنقيب نفسي مكثف في داخلي، وأنا لا أجرؤ على ذلك!

كوب القهوة والسيجارة التي كابدت شيطنة إنشغالي عنها حتى حرقت أطراف أناملي، دون أن تدري عن تلكـ الجريدة التي أصبحتُ عميلاً صباحي لـ عناوينها.. جريدة الوطن أحد الصحف التي ظفرت بنشر مقالات الأستاذ القدير محمد حسن علوان، ولا أخفيكـ أنني أحد المتتبعين لـهذه المقالات وهي محفوظة لدي على شكل آخر كمستندات مثلاً وهذا بواسطة خاصية النسخ، فـ هي تمثل لي منهج تأسيسي من خلال وحدة الفكرة التي تقوم عليها وكذا أسلوب الطرح وإلخ…، ومن هذه المقالات التي وددت تناولها في هذا اللقاء كان بعنوان ”الديموغاجية تبعدُ المدونات عن هدفها الأسمى“، والذي تضمَّن حادثة الاعتقال التي تعرض لها الكاتب فؤاد الفرحان وكيف أن مدونته أخذته نحو هذا السياق دون أن يشعر، وكنت قد عرَّفت الديموغاجية بأنها مجرد ”إستراتيجية حشد الأتباع وذلكـ عن طريق محاباتهم ودغدغة مخاوفهم وملامسة تظلماتهم بخطاب عاطفي ملتهب“، وأنها لا تخدم القضية كي يتم إيجاد الحلول من خلالها وإنما تشخصها دافعةً إليها أساليب الشتم لـ تكون خلاصتها مجرد تفريغ لـشحنات الغضب… أتفق معك في أن مثل هذا الأسلوب لا يجدي نفعاً وأنه يقود إلى تظاهرة شعبية تفتر بعد مدة من الوقت، ولكن هل بـإمكان تلكـ المدونات التي تتذاكى على مقص الرقيب وتأتي على أساس نقدي رصين الوصول إلى تلكـ الجهات والمعنية بـهذه القضية مثلاً؟ وكما تعلم أستاذي القدير نحن في مجتمع نقلي عاطفي من الدرجة الأولى لا يستوقف المنطق في أغلب الأحيان..!

أتساءل إذا ما كان هذا هو دور المدونات أصلاً: التحول إلى عرائض إصلاح في صيغ الكترونية! أنا شخصياً أرى أن التدوين أوسع بكثير من هذا. الخطاب الإصلاحي عموماً سواءً جاء على شكل مدونة أو أي شكل آخر من أشكال ممارسة التعبير هو مشروع فكريّ وعمليّ تختلف قدرات الناس على إتقانه، وكذلك يختلف مستوى الإتقان المطلوب لهذا المشروع لكي يكون مجدياً بين مجتمع وآخر حسب الحالة الحضارية لهذا المجتمع. الإصلاحي الذي يرجى منه التأثير الإيجابي ليس مجرد شخص نشيط ذي نوايا طيبة فقط، بل يجب أن يكون مفكراً عميقاً، ويتمتع بذكاء اجتماعي حاد وحكمة بالغة في توجيه أفكاره وتحويلها إلى نماذج واقعية. وهو بذلك قادر على صياغة مشروعه الإصلاحي بما يناسب ظروف مجتمعه ليحقق منه العوائد القصوى.

د/غازي القصيبي ، أحلام مستنغامي ، محمد العلي ، الناقد/ محمد العباس ، سعد الحميدين ، أدونيس، (الكتّاب الصغار الذين يحاولون الظهور بأعمالٍ قد تودي بهم للمخاطر) قل لكل هؤلاء ما تشاء في سطر، أو كما تراه مناسباً لمقامهم؟

أعتذر عن الإجابة على هذا السؤال. هذه الرسائل المباشرة برأيي لا تفيد أحداً من القراء.

الجزء الثالث

يتأخر موعد ظهور أشياء كثيرة من تجاربنا الإبداعية نظرا لظروف كتابية معينة، أو انتظار طقوس وحالات مختلفة تتناسب مع أحوالنا الاجتماعية.. ربما! فمتى شعر علوان بأن ثمة قرارات جاءت متأخرة في حياته الأدبية؟

إذا كنت سأشعر بأني تأخرت في شيء فسيكون القراءة. أما الكتابة فالقرارات المتعجلة فيها أكثر من المتأخرة للأسف. ولكني أتفق معك في أن الظروف الكتابة صارت تتحكم في قراراتها، والموقف الاجتماعي أصبح أكثر تأثيراً على مساراتها. سأفترض، متفائلاً، أنها حالة أولية من مقاومة المناكفة الروائية التي تساءل المجتمع من حيث لا يرغب عادة أن يُساءل، وسيعتاد الكتّاب على تجاوزها بوصفها عارضاً مؤقتاً وشائعاً.

لماذا يتجمهر الناس عادة حول الروايات المتحجبة بالعري؟ هل هي بنظرك الشخصي حالة قرائية (انتقائية) أم هيجان ثوري لمجتمع منغلق وكأنه لا يعرف ما هي طقوس الأنوثة والذكورة؟

لا أعرف ما هي الروايات المتحجبة بالعري، ولا يوجد مجموعة من الروايات يمكن تصنيفها بهذا الوصف. إذا كنت تقصد الروايات التي تتناول في أحداثها مشاهد جنسية أو إيروتيكية معينة فذلك موضوع ضخم من المخلّ فعلاً أن نحصره تحت تصنيف واحد. الكثيرون يقلقون من كثرة هذا النوع من الروايات لأسباب متعلقة بمبادئهم الشخصية وتوجهاتهم الدينية وفلسفاتهم الأخلاقية، وليس لأسباب فنية تتعلق بالعملية الإبداعية نفسها. والذي ينزعج من كثرة هذه الروايات خوفاً منها على جودة النتاج الروائي ومعاييره ككل، فإن انزعاجه غير مبرر. لأن الباحثين عن القيمة النوعية في الرواية قادرين على انتقاء ما يناسبهم وإن كان نادراً، وتهميش ما لا يناسبهم وإن كان كثيراً، ولا حاجة للوصاية عليهم. قَدَر الرواية أن تطوف حول مجتمعها ولا تتجاوزه، وستظل الرواية أقرب إلى (مرآة) تعكس ما هو عليه فعلاً بدلاً من أن تكون (سبورة) ليتعلم منها المجتمع أخلاقه وقيمه كما يريدها البعض أن تكون!

هناك من أطلق عليهم كتاب وآخرون روائيون وأصبحوا مسجلين في الأذهان بهذه الألقاب الكبرى ولكن لم يعد لهم وجود.. بنظرك هل كل من كتب رواية واحدة يستحق أن يحمل هذا المسمى الضخم؟

(روائي) ليس مسمى ضخماً لأنه لقب مجاني، والقانون لا يعاقب من يدّعيه لنفسه. الرواية أهم من الروائي، فنحن نهتم بمحتوى العمل وليس باسم كاتبه. واسم الكاتب ليس أكثر من إشارة لترجيح مستوى العمل قبل قراءته، وهي إشارة قد تخطئ وقد تصيب.

محمد حسن علوان يجيد سرد حالته بكل مواقعها وأينما حلت ودائما جميل بها، ولكن ثمة أناس.. أناس ينقدونك لفرط وصفك لأحداث سرت في سقف كفايتك بين (وناصر مها) خلف أسوار الخطيئة واللقاءات الحميمة البحتة والوصف الدقيق لجسد (مها) مما يثير الشبهات لدى البعض دوما. هل يزعجك هذا الأمر؟ وهل تفكر بالقادم برواية تخلو من المحرمات والشبهات والخطايا الموصوفة بدقة عالية؟ وهل يزعجك القول بأنك تستخدم المواقف الحميمة، ولقاءات الأجساد والأنثى لجذب أكبر عدد من القراء؟

لا، لا يزعجني هذا. ما يزعجني هو افتراض الأحكام المسبقة بأن هذه الأمور هي (خطايا، محرمات، شبهات،… الخ)، وهذا رأي لم يتفق عليه البشر. كما ذكرت في إجابة أحد الأسئلة السابقة أننا نصنف حالات حياتية معينة على أنها خطايا ومحرمات استناداً على معتقداتنا وفلسفتنا وتوجهاتنا وثقافتنا، وبالتالي فإنها ليست أحكاماً إنسانية مطلقة بل نسبية محدودة. وفي الحقيقة، أنا لا أكتب رواياتي وفقاً لمعادلة الضلال والتوبة، وبالتالي لا يمكن أن أحدد مسبقاً أن رواياتي القادمة ستحوي كذا وستتجنب كذا. القانون الفني هو المعيار هنا، ولا يوجد معايير أخرى تستحق الاهتمام. إذا كان استخدام الموقف الحميمي غير موظّف فنياً بشكل جيد ومبرر فذلك جدل فني يمكن طرحه في سياق نقدي رصين ومحايد وغير متأثر بتوجه ديني أو أخلاقي معين، وعندها ستكون الإجابة على سؤالكِ واضحة ومباشرة.

ينهج علوان منهجا يملك به الألباب، ويبقي القراء دوما في صوره الخيالية التي ربما تمنحه فرصة لإسقاط شخصية أبطاله على شخصيات واقعية في محيطه، بل ربما يصل بعض القراء لقناعة أنك أنت البطل في إحدى رواياتك، لماذا هذه الأدوار البطولية الإسقاطية؟

الخلط بين الكاتب وأبطاله هي إشكالية كتابية/قرائية شائعة جداً. بعض الكتّاب يحرص على تجنبها بوصفها خطراً يهدد قدرته على خلق شخصيات منفصلة تماماً عن واقعه، والبعض الآخر لا يبالي بذلك لأنها شأنٌ هامشيٌ في الكتابة والمهم لديه أن يكتب كتابة جيدة سواءً كان الأبطال يشبهونه أو لا، وللقارئ الحق في أن يفترض ما يشاء. أنا لم أتعمد إسقاط شخصياتي على حياتي الشخصية، والأقربون مني يمكنهم معرفة ذلك بسهولة. اختياري للشخصيات لا يمرّ عبر هذا السؤال أصلاً، ولا أحاول أن أبتكر شخصيات غريبة جداً عني فقط لأتجنب الخلط.

هناك روايات المرة الواحدة، والطبعة الواحدة التي انتشرت في المشهد الثقافي السعودي، هل بنظرك (الوساطة) تدخلت حتى في شؤون النشر والثقافة والأدب؟

الثقافة والأدب ليس مجالات مقدّسة وطاهرة تحدث في السماء فقط. إنها كمثل كل الأنشطة البشرية التي تجري على الكوكب، يعتريها ما يعتريها من ذنوب ويكللها ما يكللها من فضائل. ولكن على كل حال، قرار النشر في العالم العربي ما يزال سهلاً ورخيصاً، وباستطاعة أية كاتب أن ينشر روايته بتكلفة بسيطة، ومن حقه أن يفعل ذلك لأن النشر حر والمجال مفتوح للجميع. لقد نَشَرتُ أنا روايتي الأولى (سقف الكفاية) عام 2002 على نفقتي الشخصية بعد أن رفضها أكثر من ناشر، ولم تجدِ معهم حتى الوساطة!.

ما هي توقعات علوان كأديب في القادم من العمر الأدبي للساحة الثقافية السعودية؟

كل المؤشرات تدعو للتفاؤل. هناك المزيد من الكتّاب يتخذون قرار الكتابة كل يوم، وهذا يعني دخول جملة من الأفكار الجديدة إلى المشهد بشكل مستمر. هذا لا يأتي إلا بخير، بغض النظر عن مستوى المطروح وتوجهه.

ما الذي يفعله عادة أديب كعلوان قبل وبعد طباعة روايته؟

في الغالب أني بعد الانتهاء من روايتي أعرضها على بعض المقربين ليفحصها بعين القارئ ثم أبعثها إلى ناشرها. وبعد طباعتها لا يعود لي أي دور.

هل توجد أعمال في أدراج علوان تجاهلها حتى الآن؟ وإن كانت فمتى يمكن لها أن ترى الأعين؟

بالتأكيد يوجد أعمال غير مكتملة لأسباب مختلفة. فبعضها وجدته ليس جدير بالنشر، وبعضها الآخر وجدتني أنا غير جدير بإكمال كتابته بعد! كل عملٍ يكتمل بين يدي وأجده جديراً بالنشر أنشره فوراً.

هل يمكن للكاتب أن يؤرخ كتاباته الكبرى بتواريخها الحقيقية ثم ينشرها في زمن غير زمن الكتابة؟ وهل فكر علوان بهذا القرار الغيبي؟

لم أفهم المقصود من السؤال، ولكن على كل حال.. ليس عندي كتابات (كبرى)!

ما الذي يريد أن يقوله علوان لمجتمعه السعودي من خلال مقالاته الأسبوعية التي تنشرها صحيفة الوطن السعودية؟

أنا أشترك مع مجتمعي في طرح الآراء حول الموضوعات المختلفة التي تدخل في دائرة اهتماماتي. وأقول هنا دائرة (اهتماماتي) وليس (اختصاصي) بالضرورة. فمقالة الرأي لا تشترط التخصص في المجال لأنها مقالة (رأي)، وليست مقالة مرجعية أو مبحثاً أكاديمياً أو تقريراً متخصصاً. الذي أحرص أن تشترك فيه مقالاتي هو الفائدة والمصداقية والابتعاد عن الإثارة.

هل فكر علوان يوما ما في كتابة رواية (الذاتية السير) أم أنه ما يزال الوقت مبكرا لخوض هذا النوع من الروايات؟

ليس في سيرتي ما يغري بالكتابة، وعندما تصبح سيرتي أكثر ثراءً وجدارة بالكتابة فسأكتبها أياً كان عمري حينها.

نحن نقول لك: سعدنا كثيرا بمحاورتك، والجلوس إلى قلبك المفتوح لنا، وروحك البيضاء التي اقتربت منا لتزيدنا فرحا، تتوجنا بقبول هذه الاستضافة الفاخرة، فماذا تقول لنا أخيرا؟

أطالبكم بغفران تقصيري وتجاوز زللي، وأشكركم على اهتمامكم.