arrow-leftarrow-rightaskfmemailfacebookgoodreadsinstagramtwitter
العودة إلى المقالات الإعلامية

محمد حسن علوان:

الكتابة ليست كمية فيزيائة.. و(سقف الكفاية) لم تهزمني

مجلة الشرق

حوار/ سكينة المشيخص

(سقف الكفاية) هزمت محمد حسن علوان… تعليقك؟

لا، لم تهزمني، ولم تدر بيننا أي معارك! لقد كانت رواية أكثر من طيبة، منحتني تلامساً مباشراً مع إنسانيتي، وفتحت لي باباً للمساءلة النفسية والعاطفية لم أعرفه من قبل. صدقيني، ما زلتُ أعيد قراءتها في أوراقها الأصلية بخط اليد، وأفكر فيها كثيراً، وأعيد التأمل في ظروفها، وزمنها، وملامحها، وأكتشفُ الكثير من الكلام القلبيّ الذي لم تكن تفضحه الوهلات الأولى. إنني أتأمل نفسي من جديد بعد أن تغيرت الثياب والأيام. هذا من ناحية علاقتي الشخصية بروايتي، ومن ناحية اجتماعية، منحتني علاقات مختلفة، ومتميزة بذاتها، مع قراء، وأصدقاء، حضر بعضهم على بساط الرواية، وأبى إلا أن يكون مضيفاً، ومتميزاً، وتاركاً أثره في المكان دون أن يتشابه مع غيره أبداً، لكل قارئ حكاية، وأثرٌ مستقل على الرواية وكاتبها، أتعامل مع كل علاقة بقارئ ما بشغف، وتأمل، واستقراء دقيق لهذا التقاطع بين قارئ وكاتب. أحياناً كثيرة، يكون القارئ مبدعاً في (قراءته) أكثر مما كان الكاتب مبدعاً في (كتابته)!

استنفدت طاقتك الروائية في هذه الرواية على ما يبدو.. ماردّك؟

الكتابة ليست كمية فيزيائية لتنفد أو تنتهي، إنها حالة ذات ظروف مشروطة تمنحها التواجد. عندما نتعاطى الحياة بالكتابة فهذا يعني أننا مؤهلون في نظامنا الإنساني لممارسة العملية دائماً، لا شيء يوقف هذا التأهيل، ولا شيء يحدّ من هذه الاستمرارية الحياتية. هل يمكن أن يفقد الرسام القدرة على الرسم فجأة؟

لنصل معاً يا سكينة إلى لب القضية التي أعرف أنها حرضت على هذا السؤال. الذين أثاروا قضية (استهلاك الطاقة الروائية) هذه كانوا يقرأون المشهد الروائي بأكمله بعيون صحفية بحتة، الرواية التي تأكل صفحاتٍ أكثر من الجرائد تعني لهم الكثير، وعلى ذلك، قاموا بعملية مقارنة رياضية بسيطة بين صفحات الجرائد التي تناولت سقف الكفاية، ثم التي تناولت صوفيا بعد سنتين، وعادوا بنتيجة لا علاقة لها بالثقافة والرواية إطلاقاً. نتيجة صحفية!

ولعلهم أغفلوا أن ثلثي الموضوعات الصحفية التي تناولت سقف الكفاية كانت تدور حول الأثر الاجتماعي للرواية أولاً، وحول عمري أثناء كتابتها ثانياً، بينما الثلث الأخير كان فنياً. والثلثان الأولان لا يمكن تكرارهما بطبيعة الحال مع صوفيا!، لأن أحداث صوفيا كانت في بيروت، وبالتالي لا يوجد جدل اجتماعي كذلك الذي تحدثه سقف الكفاية في الرياض، ولأنهم لا يمكنهم إعادة ما كتبوه عن عمري اثناء كتابة صوفيا لأنها روايتي الثانية، وبالتالي تم تناول صوفيا بالشكل الثالث المتبقي من أشكال سقف الكفاية، النقد الفني، وهذا هو المطلوب، ولكنه في المقابل خفف من الاستهلاك الصحفي، ما أدى ببعض المتلقين إلى استقراء الموضوع برمته من زاوية خاطئة تماماً. واعتقدوا أن صوفيا لم تحقق ما حققته سقف الكفاية، ثم انجرفوا في أنساق وأحكام جاهزة ومكررة من نوع: الرواية الواحدة، وكيف أن الضوء الإعلامي يحرق الكاتب، الخ.

وأنا، بدأت ككاتب لا أملك إلا قلمي ودفتري، وسأظل أمارس الكتابة بنفس المحفزات الأصلية تلك، لأنها الأبقى، ولا يمكن أن أجعل توجهات المشهد الصحفية عوامل محفزة لي بدلاً من حوافز الكتابة الأصلية. سياسة السوق، والعرض والطلب، لا علاقة لها بي، ولا بكتابتي، ولا تؤثر بي كثيراً! بنظرة واضحة نستطيع أن نلاحظ أن الكتابة التي تكون معزولة عن تأثير السوق الثقافي تكون أقدر على كسب هذا السوق في النهاية، وبقيمة فنية مستحقة.

الضجة التي أثارتها الرواية تركزت على منطقية إبداعك مع صغر سنك (23 سنة).. كيف تعاملت مع ذلك؟

لم يكن مطلوباً مني وقتها أن أقوم بأي ردة فعل، رحتُ أراقب، وأختلط، وأتعلم. وخرجتُ برؤى لا بأس بها حول سلوكيات المجتمع في تلقي هكذا أحداث، وفرّقت بين العابر والباقي، والأصيل والمموه.

لا شك أنها منطقة زلقة جداً، قد تلقي بالكاتب خارج عملية الكتابة تماماً، وتجعله ينشغل بهوامشها. مثل النشر، والتسويق، والصحافة، والمنافسة الخفية مع كتاب آخرين على غنائم غير حقيقية. ولا شك أن هذا سينعكس على قيمة ما يكتب، لأنه لا يمنحه الوقت الكافي من الانغماس، وربما يسعى لاستخراج كتابته قبل وقتها فقط ليظل حاضراً في المشهد، وكأنه في معركة وهمية مع الزمن!

أنا أتمنى على الكاتب، أي كاتب، أن يبقى خارج معادلة السوق الثقافي هذه، إن تذكرتنا للدخول أصلاً كانت عبر الكتابة، فلماذا نتجاهل الأصل، ونتمسك بهوامش تعيقنا نفسياً عن متابعة الكتابة بروح صافية، خالية من شوائب ما هو خارج الكتابة!

هل المطلوب من الروائي تقديم براءة اختراع إبداعي مع كل منجز، أم أن دهشة التلقي مما يمكن تجاوزه؟

آليات التلقي بسيطة في مشهدنا الثقافي، أو أن الذين يملكون آليات أعمق غائبون عن النشر والإعلام. جميلٌ كان استخدامكِ لعبارة (براءة الاختراع) في السؤال، لأنها تظهر كيف تنشز هذه الكلمة الصناعية المادية عن السياق الثقافي والكتابي. لم تكن الكتابة مشروعاً أحادياً على الإطلاق، ولا يمكن أن تكون كتابة إذا كانت كذلك! وليس المشروع الكتابي بحالة من العزلة والانهماك يخرج على أثرها كتاب ما.

إذا سمحتِ لي أن أصوّر لكِ ما تعنيه الكتابة بالنسبة لي، فسأتخيل سلسة طويلة من البشر، يتماسكون يد بيد، ويصنعون خطاً ثقافياً بطول الزمن نفسه. لا أحد يعرف أين بدأوا، ولا أين ينتهون، هناك تواصل، توارث، تلاقح، وأفكار تنتقل من يد إلى يد، ومن كتاب إلى كتاب آخر.

كيف تكوّنت عناصر الإبداع لديك؟

لا يمكن أن أدّعي أني مطّلع على أسرار الخلق أولاً، ثم لا يمكنني، حسبما يقتضيه التواضع الأنيق، أن أنسب لنفسي كلمة: الإبداع!

في رواية (صوفيا) كان الحب الحرام محور كثير من أحداثها، بصراحة هل أصبح خرق التابو مفتاح السر لنجاح النصوص؟

نعت حالة من الحب بالحلال أو الحرام هو أمر متعلق بمرجعية ثقافية معينة، مكانياً وزمانياً. يُختلف عليها ويُتفق حولها في سلسلة من التجادل لا تنتهي، والكتابة التي أنتمي لها حالة عامة، لا علاقة بهذه الانخراط الجدلي المحلي.

خرق التابو، بشكله المباشر الذي يوحي ببساطة الأمر وسهولته، يصنع روايات للاستهلاك المرحلي فقط، ولا تعتبر رواية قائمة بذاتها بقدر ما تعتبر حلقة من حلقات التجادل الاجتماعي، وشاهداً من شواهده. أما، خرق التابو، كحالة من حالات المساءلة الإنسانية للثوابت والحدود، فهذه من أعرق مكونات النص الروائي والأدبي عموماً، ومن أهم مداخله وأدواره في السيرورة الإنسانية.

الناقد محمد العباس وصف روايتك (سقف الكفاية) بأنها أطول رسالة ترقيم وذهب إلى تشبيه صداها براوية جوته (آلام فيرتر).. إلى أي مدى كان العباس موضوعيًا ودقيقًا؟

سلامٌ إلى العباس، ومزحته الثقيلة هذه!
أعتقد أن محمد العباس كان يحيل إلى عبارة (الترقيم) بوصفها حالة اجتماعية محلية يقصد منها جلب الأنثى البعيدة وغير المتوفرة بطبيعة الحال في مجتمعنا. وسقف الكفاية استخدمت ضمير المخاطب في ما يشبه رسالة من ناصر إلى مها، ومحاولة أخيرة لجلبها، وجعلها “متوفرة” في حياته مرة أخرى بعد غياب أليم. وإذا كان هذا غير ما يقصده العباس، فأنا أعتذر منه.

محمد العباس ناقد أصيل فعلاً، وأنا أهتمُّ كثيراً بما يكتبه عموماً، وبما يتفضل به عليّ من الرأي والنقد خصوصاً، وأنا أتمنى أن يتم تفريغ منهجه النقدي العميق في أوردة مشهدنا الثقافي، وتعميم مشروعه ليكون على مستوى آليّة ومنطلق نظريّ أكثر من كونه نتاج شخصي.

فلسفة الموت أصبحت تغرى الكثيرين لاستصحابها في السرد، ذلك ما حدث في بطلة (صوفيا) التي قضت بالسرطان وكذا الحال في (سقف الكفاية) حيث كانت النهاية ميلودرامية.. لماذا هذا السواد؟

لم أكتب بعد الكثير من الروايات حتى يمكنكِ تعميم فكرة السواد في أعمالي. أنا لا أختار ثيماتي قبل الكتابة أصلاً، ولا يمكنني أن أتجنب طوعاً ثيمات مستوطنة في داخلي، وشائعة في مجريات أيامي مثل الحب والموت!

يمارس بعض الروائيين، وأنت أحدهم، ما يمكن تسميته بالطواف الاجتماعي أي مناقشة قضايا المجتمع من خلال آخرين كما فعلت في (صوفيا) ببطلتها اللبنانية.. كيف تناقش مثل هذه القضايا بالهروب إلى الداخل والصعود إلى أسفل؟

لم تكن هذه نية مسبقة قبل كتابتي لصوفيا، ولا يوجد في رواية صوفيا أي آراء غير ماشرة، أو انتقادات جانبية للمجتمع إلا ما يتم تناوله بشكل واضح في العمل. رواية صوفيا تحاول مقاربة حالة إنسانية، ومساءلة فلسفة كبرى في الوجود، وهي الموت، فقط.

(صوفيا) عبارة عن حالة سرد حمراء قد لا تضيف إليك إلا السوء، لماذا جرّبت هذا النوع من الأدب المجاهر بالمعصية الاجتماعية؟

إجابتي السؤالين 6 و 8 تكفيان لإجابة هذا السؤال. ((بإمكانكِ حذفه أو إبقاء هذه الإجابة كما هي هنا))

كيف هي حالة الميزان الإبداعي للشعر والرواية لديك؟

يتزنان بشكل طبيعي. حاجتي النفسية إلى الانخراط في أحدهما هي التي تحدد شكل ورقتي القادمة. الأمر يشبه عادتين حياتيتين مثل الشرب والتنفس، هل يمكن أن نخلط بينهما؟ لا يمكن، ولا أنا (أشرق) كثيراً في الكتابة، إلا في حالات صعبة جداً، ربما أتناولها في كتابة ما!

هل ستكتب قصيدة ذات يوم بنفس إيقاع (صوفيا)؟

لا أعتقد.

خطك الإبداعي قد يقصى بك كمبدع في مجتمعنا، ألا تخشى العزلة والنفي؟

الذين ينفونني بسبب كتابتي لا يمكن أن يكونوا أوطاناً في الأصل!

ما خططك الإبداعية التالية؟

أعمل على رواية مختلفة في وقعها اللغوي عن الروايتين السابقتين. وتتناول ثيمة واقعية، ملونة، وفنتازية، وبعيدة عن السوداوية حتى لا تتهميني بها في حوار قادم!

بعد كل هذا.. من أنت بحسب رؤيتك لنفسك؟

محمد حسن علوان… ليس إلا!