بعد ”صوفيا“.. محمد حسن علوان لـ الإقتصادية:
مشهدنا الثقافي مصاب بالوهن والكسل ومتشائم تجاه الأعمال الجديدة
صحيفة الاقتصادية السعودية
حوار/ منصور العتيق
الاحتفاء الإعلامي الذي يصحب محمد حسن علوان كحالة خاصة صار مثار أسئلة واستفهامات كثيرة حول شخصية الكاتب ومشروعه، ومع صدور روايته الثانية ”صوفيا“ وما أثارته لاحقاً من آراء نقدية وانطباعية متباينة جعل الأسئلة أكثر ظهوراً وإلحاحاً. الاقتصادية حاورت محمد حسن علوان هنا حيثياته:
بداية، تبدو مقدمة صوفيا واعدة بشخصيات اسمح لي أن أسميها (فخمة) بفخامة اللغة والحديث عن الملائكة وشروق الشمس لأول مرة، هل تيمة الموت هي المبرر الأساس لهذه الطقوس اللغوية الخاصة، مثل تأبين ابتدائي يهيئ القارئ لطقوس الموت، والسرطان، والحب الغرائبي المصاحب؟
تلقيك لتيمة الموت على أنها مبرر لطقوس لغوية خاصة يجعلني أقبل تصورك القرائي، ولا يمكنني أن أمحو هذا التلقي لأنسخ بدلاً منه مكاشفة للنوايا الفنية أثناء الكتابة، النص يبقى كما استقبله قارئه الذي يشكل استقباله هذا بؤرة آرائه المتعددة حول لعمل، بينما تنتهي كل الملابسات والمحاولات الكتابية بانتهاء العمل، وانتقالها إلى موقف فني آخر، يكون سيده هو القارئ، والمتابع المحايد هو الكاتب.
تهيئة الأجواء الدرامية في البداية كانت نية واضحة في النص، لم تكن مبرراً بقدر ما كانت مدخلاً لفضاء محدود المعالم، والمشاهد، ولكن مفلسف بكثافة تستدعي استراعاء الانتباه، وترتيب التلقي بشكل يتيح له استكناه الظرف السردي بشكل أبعد من حالته السطحية، وهنا يكمن ضمير الرواية.
في إحدى مقابلاتك بعد صوفيا تساءلت (لماذا لا يكتب رواياتنا إلا الأدباء؟) هل يعني ذلك أنك لو تخلصت من ذاتك (الأديبة) ستخرج (صوفيا) منك برضا أكبر؟
هذا التساؤل الثقافي كان تحريضاً لتوسيع أفق المشروع الروائي، والمشاركة فيه على نطاقات معرفية أخرى، ولم يكن دعوة لمصادرة الاحتكار الروائي على الأدباء، أنا قصدتُ الجنس الروائي كأديب، وأظنني سأكمل مشواري فيه أديباً، لأني تهيّأت لها بهذا الشكل، ومن الصعب أن أعيد صياغة هذا التأهيل بقدر ما أسعى لضفر جهودي لتجديده، والإتيان بالجيد المستطاع منه. أن أكتب صوفيا كأديب يجعل مهمتي صعبة إلى حد ما، إذ عليّ ن أناقش رؤى إنسانية مكررة كالموت، والحب، والسأم، بنفس الأداة الأدبية التي تناولها بها الكثيرون، ثم أسعى للخروج بفلسفة غائبة ما، ولو كان عندي تهيؤ أخرى لربما اتجهت لمعالجة رؤى أخرى، وليست نفس هذه الرؤى بالضرورة. أحياناً، الأداة المتوفرة هي التي تحدد الاتجاه الروائي.
الحب ثم الموت هو تيمة عمليك الروائيين (سقف الكفاية) ثم (صوفيا)، سواء الموت بشكله المعنوى (الغياب النهائي) في سقف الكفاية، أو بشكله الفيزيائي الحقيقي (السرطان) في صوفيا، سؤالي هو: هل رويت ـ في عمليك – نفس الحكاية بطريقتين مختلفتين؟
كلاهما تيمتان شاسعتان جداً، يمكن تناولهما في تجارب كتابية لا تنتهي، ربما أني تناولت نفس الأشكال الدرامية الخام، وأعدتُ إفرازهما في قوالب سردية أخرى، ولكني لم أرو نفس الحكاية بالضرورة، لأن هذا يخالف الشرط الإبداعي إذا طبقناه على مشروع شامل، وليس على عمل مستقل. وسواءً إذا كان سؤالك يقود إلى هذ الملاحظة أو لا، ولكني انتبهتُ بعد تجربتي الثانية (صوفيا) إلى أن العمل الأولى يترك بصمة فنية تصنيفية في ذهنية القارئ حسب ذائقته، هذا البصمة يتعامل معها القارئ بأشكال مختلفة، حسب تعريفه لأنماط الإبداع، فتارة يتجه لإغلاقها مطالباً الكاتب بالإتيان بعمل مختلف تماماً، ينتج بصمة لا تنتمي للبصمة الأولى بأي ملامح شبه، ويصاب بخيبة ما عندما يستقبل بصمة مشابهة، لأن رؤيته الإبداعية تشترط المخالفة والتجديد الشاملين، كدليل ضروري على سعة أفق الكاتب، وقدرته على الخوض في شتى النماذج السردية المتاحة، وتارةً أخرى يسعى لتدعيم ثبات البصمة الأولى مطالباً الكاتب أن يأتي بعمل مرادف للعمل الأول، وكأنه يستمسك بحالة إعجابه الأولى مستغنياً بها عن أي حالة لاحقة مختلفة، ويرفض لاشعورياً أي لون جديد يضاف إلى لوحته المكتملة، والمعتد بها قرائياً، حول هذا الكاتب. واجهت هذين الشكلين من الآراء بعد صدور صوفيا، واللذين لم يكن من الممكن أن أواجههما إلا بعد عملين على الأقل، والحقيقة أني أتجه إلى حالة وسطية، فمن غير المعقول أن يكون هم الكاتب مع كل عمل جديد هو الانسلاخ والتخارج النهائي من العمل السابق، ومن غير المعقول أيضاً أن يكرر نفسه معه بشكل لا يضيف جديداً تراكمياً إلى تجربته.
محمد، تتهم كثيراً في قدرتك الروائية، وأنك لست سوى (شاطر) في (تسويق) إنتاجك، كيف تعلق؟
ماذا يعني (تسويق) العمل؟، هل يعني أن مجرد إيصال العمل إلى يد القارئ هو كل ما ينبغي لإنجاحه؟، هل يعني أن القارئ مجرد مستهلك بليد لكل ما يصل إليه دون أي دور مشهود لذائقته؟، هل يوجد بالفعل من يظن أن مجرد حرص الكاتب على وصول العمل إلى قرائه هو كل ما عليه أن يفعله لينجح؟
أعتقد أن هذه الأسئلة البدهية تطرأ على كل من يسمع بتهمة كهذه، صحيح أن المشهد الثقافي المحلي مصاب بشيء من الوهن، والكسل، والتشاؤم تجاه الأعمال الجديدة، والدور التسويقي المرادف للدور الإبدعي الأساس هو دور ناجع في علاج مثل هذه الحالة، رغم أني شخصياً لم أقم به تماماً، وإن خيّل لبعض المتابعين أني فعلت.
قلت لي مرة أنك لا تشترط منحى تصاعدياً ثابتاً في أعمال الكاتب الواحد، هل هو تبرير ضمني لعدم اقتناعك بـ(صوفيا)؟
لو لم أقتنع بها عند فراغي منها لما نشرتها مطلقاً، ثمة أعمال أخرى كتبتها قبل صوفيا ولم أنشرها، وما زلتُ أنظر إليها على أنها تلعب الأدوار الخلفية من المران والتجهيز وراء بروز عمل أقتنع به كصوفيا، أما بالنسبة للمنحى التصاعدي الذي قصدته، فليس معيارياً كما رأيته، الفنون والآداب لا تقاس بالمعايير التصاعدية كما تعرف طبعاً، ولكن ما قصدته هو أن شرط الإتيان بعمل (أضخم) من العمل الأول ليس ضرورياً، ولو كان ضرورياً لفقدنا الكثير من الروايات التي طرحت بسبب أن ما قبلها كان أكثر كثافة، وتطلّب اعتكافاً فنياً أطول.
عودة إلى اللغة، أشعر أنك لم تحسم صراعك معها بعد، بدءً من إصدار الطبعة الثانية من (سقف الكفاية) بتعديلات واختصارات طالت (لغة العمل) في المقام الأول، وانتهاء بالشكل الجديد اللافت للغة السرد في (صوفيا). الشق الأول من سؤالي: هل لا زالت سقف الكفاية بالنسبة لك مخلوقاً حياً يحتمل إعادة نفخ الروح فيه (لغوياً)؟
الطبعة الثانية من سقف الكفاية لم تشهد تعديلات على مستوى التركيب اللغوي، ولا يوجد أي مساس بهيكلها الفني، أو الحكائي، كل التعديلات كانت لأخطاء نحوية، وإملائية، وطباعية، وقعت في الطبعة الأولى بسبب ضعف التنسيق بيني وبين الناشر، بالإضافة إلى بعض المقاطع الشعرية والنثرية الزائدة التي أرهقت نص الرواية، وحذفها لم يخل مطلقاً بسيرورة الرواية التي حرصت على بقائها كما كتبتها لتمثل المرحلة.
اللغة هي محور تجربتي الروائية حتى الآن، وكان هاجسي في العملين هو تحويلها من مجرد أداة فنية إلى مركب روائي بنيوي، وإن كنتُ لم أضع هذه النية بهذا الشكل الاصطلاحي إلى بعد مطالعتي للدراسات النقدية التي تناولت العمل.
ليس عندي أي توجه لإعادة الاشتغال على أعمال نشرت فعلاً، إلا على مستوى التصحيح غير الفني للأخطاء حال وقوعها، وإن كنتُ لا أجد غضاضة في ذلك، وبعض الأعمال الروائية الكبرى شهدت إعادة صياغة فنية في طبعات متعددة، ولكني أفضّل التركيز على القادم، وعدم تشتيت القارئ بطبعات مختلفة.
الشق الثاني: لماذا اللغة دائماً هي السؤال الأول عند التعاطي مع محمد حسن علوان؟
ربما لأنها السمة الأكثر حضوراً في أعمالي. ولا أتحرز أن تكون هي السؤال الأول دائماً، ما دام هناك أسئلة أخرى.
على مستوى الشخصية، هل أقنعك معتز؟ وهل كم الغرائبية المحشور في داخله كان مقنعاً لك أثناء الكتابة، ولقرائك فيما وصل إليك لاحقاً من انطباعات؟
إذا كنت تعني قناعة فنية، فهذا واجب من واجبات طرحي للعمل منشوراً، أعني أن أكون على قناعة بأن هذا كل ما أملك تقديمه لهذه الشخصية من حضور على مستوى النص بكل أبعاده، إما إذا كنت تعني مستويات أخرى من الاقتناع، كالواقعية، والإنسانية، وغيرها، فهذه برأيي حالات تخص القارئ كمتلق للنص، وأنا لا أستطيع أن أختبر أثر ما صنعته بحبري عليّ.
معتز شخصية نزقة أكثر من كونها غرائبية، ولكن الحدود بين الغرابة والنزق تختلف من متلق لآخر، والانطباعات حول أعمالي لا تختلف فحسب، بل تتناقض أحياناً، وهذا ما ألمسه بشكل متكرر، ربما لأني أسعى لطرح الأسئلة الضمنية في النص، ولدى الجميع دائماً إجابات مختلفة حول كل قضايا الحياة.
على مستوى الشخصية أيضاً، ما هو المبرر الدرامي لكون الذات الملولة لـ(معتز) تستجيب لنهاية محسوسة ومعلومة تفاصيلها مسبقاً مثل: السرطان؟
لا أستطيع من خلال الإجابة على أسئلة حوار أن أعيد تبرير مكونات النص الحكائية، و أفسر على ورق غير ورق الرواية تصرفات الأبطال، وظروف الأحداث، وملابسات الزمن والموقف واحتمالاتهما، ولكني أعرف دائماً أن كل حدث في أي نص هو معرض للقبول أو الرفض على المستوى المنطقي بين قارئ وآخر، وهو يعتمد على نوعية المعيار الذي يبرر به القارئ الموقف، سواءً كان معياراً محاكماً مضاداً، أو مسايراً لرؤية الكاتب. درامياً، حالة صوفيا صدمت معتز إلى حد خلخلة حتى نزعاته الأساسية، وشكلت عنده نوعاً من الاضطراب بين رفض حالة والإفراط في رفضها. بإمكانك أن تجد قارئاً آخر وجد الأمر سائغاً، ولا يحتاج إلى تبرير درامي خارج النص.
هذا سؤال صار يتبادر كثيراً هذه الأيام: هل تكتب لقارئ آخر؟ بمعنى آخر: هل بذهنية الترجمة؟
لا أتصور أن ثمة كتابة روائية فنية بذهنية الترجمة، وأخرى بذهنية محلية أو إقليمية. ولذلك لم أقم بأي تحرزات أو إضافات معينة لأجهز الرواية مسبقاً لأي مشروع ترجمي محتمل. أعتقد دائماً أن الترجمة فن أدبي علمي اجتماعي مستقل، وليس من المفروض أن يكون للكاتب دوراً فيه.