محمد حسن علوان:
لماذا يجب نحاكم النصوص وفق التزامها بالمعايير؟
حوار/ رحاب ضاهر
ينتقل محمد حسن علوان بين الشعر والقصة القصيرة والرواية بكل هدوء، من دون أن يقع في ارتباك كما يقول ليطل علينا بروايته الأولى ”سقف الكفاية“ بلغة شعرية فائضة ومسترسلة، أو رواية كتبت على هيئة قصيدة طويلة لا تنتهي وغير ملتزمة بحدود الأجناس الأدبية. فاللغة على حد تعبيره هي أساس كل الفنون القولية وليس الشعر فحسب، وتقنيات الكتابة في تغير مستمر وظهور أنماط جديدة من الكتابة الروائية أو الشعرية هي حتمية، فلماذا لا يظهر نثر الشعر؟وعن هذه الأمور وسقف الكفاية كان لنا معه هذا الحوار:
لماذا ”سقف الكفاية“ وليس اسما آخر يتناسب مع شاعرية الرواية؟
الاسم بالنسبة لي ومضة عابرة في أفق الكتابة، لاحت لي.. فقبضتها، وأبقيتها قيد التفكير… حتى وجدته يفتح النافذة بقدر مناسب على النص ومحاوره، عنونة النص قناعة غير مبررة أحيانا، يزج بها إلى الخروج… شعور غامض بالتحام غير مفهوم بين دلالة الاسم ودلالة الرواية.
عندما انبثقت العبارة ”سقف الكفاية“ أثناء الكتابة، شعرت أن التركيب يفرز رنينا يأبى أن يظل عابرا بين الجمل الأخرى، وبالمضي الطويل في مشوار الكتابة تكونت قناعة تراكمية بأنه لا يوجد اسم آخر يمكن أن يرضي ذلك المتطلب الغامض في داخلي أكثر منه.
قراء كثر أخبروني أنهم اشتروا الرواية فقط… بعد أن استثارهم العنوان، من دون أن يكونوا قد سمعوا بها من قبل أو سمعوا بي، كان التحفيز الذي نصبته العبارة في دواخلهم كافيا للدخول في رهان مع النص الذي يأتي وراءها، وهذا ما كان، وهو يرضيني بشأن العنوان شخصيا على الأقل. هذا لا يعني أن التصالح الداخلي مع العنوان يكفي لطرحه، فلربما دعت الحاجة إلى تبني ذائقة القارئ أحيانا، واستخدام معايير فنية معينة في ذلك..
”سقف الكفاية“ رواية أم قصيدة شعر طويلة؟
رواية حتما… بعيدا عن الالتزامات المتزمتة بحدود الأجناس الأدبية. إن إقامة عمود اللغة لا يعني نقض عمود السرد بالضرورة، فاللغة أساس كل الفنون القولية وليس الشعر فقط، ومن الناقض لطبيعة الشعر كفن أن نجعل اللغة هي أساسه، فتصير كل لغة متقنة هي شعر بالضرورة… وهذا تحجيم وعدم فهم لطبيعة الشعر، وكيميائه الأساسية.
الأدب يتطور، وتقنيات الكتابة في تغير مستمر، وظهور أنماط جديدة من الكتابة الروائية أو الشعرية هو ضرورة حتمية للأثر الذي يصنعه كل جيل مر على عتبة الكتابة، لقد ظهر شعر النثر… وأسس لنفسه مكانا لا ينازعه عليه أحد. فلماذا لا يظهر نثر الشعر؟ ولماذا يجب أن يلتزم الكاتب بحدود الجنس الأدبي الذي يكتبه قامعا في ذاته كل رغبة إبداعية متمردة للخروج بمزيج نزق يساير انثياله الكتابي؟ لماذا يؤطر نفسه في قواعد لم يضعها هو… ولم يوافق عليها، وجاء ليجدها منصوبة أمامه؟ فهل احترامه لها يقتضي بالضرورة… عدم محاولة الإتيان بما يخالفها؟ ولماذا يجب أن تحاكم النصوص وفق التزامها بالمعايير النقدية الثابتة دائما؟
أنا لا أهمش دور النقد، أو أدعو الى تعطيل القواعد النقدية إطلاقا، بل أؤمن بالدور البدهي الكبير الذي يؤديه النقد على المشهد الأدبي عموما، ولكني أقول – والنقاد يعون ذلك حتما ـ أنه لا يجب أن تمنعنا القاعدة السابقة والتزامنا بها من محاولة إرساء قاعدة جديدة، فالمحاولة حق مكفول للجميع، والمتلقي دائما يحكم بوعي تراكمي لا يخطئ.
هل تعتقد أن قصة حب قد تكون عادية وتحصل في اليوم أكثر من مرة كافية لتكون موضوع رواية بهذا الحجم؟
– أعتقد أن قصصا أكثر عادية من ذلك تصلح لأن تكون ينبوعا كافيا لإغراق الورق بالسرد والكتابة، إن التصور السطحي للرواية بأنها مجرد مجموعة متصلة من الحوادث، وكلما ازدادت تراصا وإحكاما… عاد ذلك على نجاحها.
في الحقيقة إن هذا التصور يجعل الرواية أشبه ”بالرسوم المتحركة“ منها إلى العمل الأدبي المنبثق من وجدان واع، الحدث جزء من أدوات الراوي المتعددة، والراوي يختار لعمله ما يشاء من الأدوات، ويقسم بينها الأدوار بما يراه متناسبا مع حالة النص الذي يكتبه، وبغض النظر عن مدى نجاح العمل أو تراجعه؛ فإن هذا لا يعني أن السبب بالضرورة هو ضعف التراكم الحدثي في النص..
الكثير من الروايات احتوت حوادث صغيرة في بناء العمل ككل، وفي المقابل جاءت بتفعيل كبير لأدوار الرمز أو اللغة أو تقنية السرد أو أي من الأدوات الأخرى.
يؤخذ على الرواية إقحام القصائد فيها، والإغراق في اللغة الشعرية التي كانت تأتي أحيانا على حساب المضمون والتي أحيانا كانت تتشابه في عدة مواضع ما يشعر القارئ بالملل؟
أحترم هذه المآخذ جميعها، ولكن لا يمكن لأي كاتب أن يبرر مأخذا يأخذه عليه قارئ ما… قد يجد فيه قارئ آخر موضع استحسان وإجادة. النقص سمة كل الأعمال البشرية، والاجتهاد هو مربط كل عمل ومبتدأه.
القصائد كانت جزءا من كينونة النص التي تتحدث عن بطل هو شاعر أصلا، وبالتالي رأيت أن إدراج مقطوعات شعرية يجعل القارئ أكثر التصاقا بوجدانه، وأكرر أنه من واقع التجربة… دائما ما تتناقض انطباعات القراء، وهذا يجعل العائد أكثر تعددا.
في بداية الفصل الرابع تأخذ الرواية خطا مختلفا، ولكن سرعان ما تعود بالقارئ إلى صدمة السرد الشعري المبالغ فيه لماذا؟
لم تكن هناك نية مسبقة لتغير خط الرواية عند هذه النقطة، ولكن القارئ أحيانا يعقد مع الرواية اتفاقية قرائية معينة، يقرأ بموجبها العمل وفق ”دوزنة“ خاصة قد لا يشاركه فيها قارئ آخر، وبالتالي تختلف ردود فعله بشأن تغير الرتم، فالقارئ الذي كان منجذبا إلى التفاصيل قد لا يلحظ ما يلحظه قارئ آخر كان منشغلا بالترتيل المونولوجي داخل النص. وربما لو أعاد القارئ قراءة عمل ما… لما وجد فيه ما كان قد لاحظه من قبل من اختلافات في الرتم لتغير حالته ومزاجه أثناء القراءة الثانية.
ألا تعتقد أن ظهور ”ديار“ في الرواية أعطاها دفعة قوية للأعلى، فلماذا لم تعطه حقه كاملا في الرواية أم خفت أن يحتل مساحة حضور تفوق حضور ”مها“؟
كنت مجتهدا في توظيف الشخصيات وتوزيع أدوارها وفق ما تقتضيه مصلحة العمل، وتحديد مساحة كل شخصية يعتمد على تنبؤات مسبقة من الراوي عن مدى فاعلية هذه الشخصية وتأثيرها على الحوادث والرواية ككل، ربما ان الشكل الذي أخذته الرواية كتداع حزين من ذاكرة البطل ”ناصر“ لم يكن يفسح مجالا للتوغل في دواخل الشخصيات الأخرى، وربما ان ضيق المساحة التي تحتلها شخصية ما تمنحها ألقا أكبر، ولكن عموما الأمر يرجع إلى اجتهاد شخصي في توزيع مساحات العمل… ليس إلا.
غمز النقاد من قناة ”صغر سنك“، واتهمت أن أحدا ما كتب لك أو ساعدك في ذلك. لماذا برأيك أصبح كل عمل إبداعي يوجه إلى صاحبه تهمة السرقة كما حصل مع أحلام مستغانمي؟ وهل تعتقد أن كتابة الرواية تحتاج فعلا إلى تجربة كبيرة وكبر في السن؟
النقاد لم يلفتوا إلى صغر السن كأداة ضد النص أو معه، كانوا يشيرون إلى ذلك في معرض استشرافهم لواقع المشهد الثقافي عموما، أما من حيث نقدهم للعمل نفسه فلم يكن أي منهم ليسقط سقطة نقدية كهذه باعتبار السن أو أي من ظروف الكاتب محورا مؤثرا في العمل، فالحياد وفصل المؤلف عن العمل من القواعد الأساسية التي يعرفها كل ناقد في أبجدية النقد.
أما الآخرون من الكتاب فربما تناولوا هذا الجانب بعلامات تعجب مختلفة الشكل، ولكنها في النهاية لا علاقة لها بحضور الرواية على الساحة الأدبية. أما تهمة السرقة فهي لم تكن بالحدة ذاتها التي وجهت إلى أحلام مستغانمي، كانت مجرد آراء شخصية للبعض، ولم تتم إثارتها وفق معايير صحافية أو نقدية أو قانونية مطلقا.
كتابة الرواية كممارسة أي فعل إبداعي… لا يمكن أن ترتهن بالعمر إلا بما يحقق الحد الأدنى من الإدراك والوعي، وبالنسبة لي لم أجد أن كتابة الرواية تطلبت تلك الذاكرة الأرشيفية التي لا يملكها إلا الكهول، ولكن المتلقي تعود على أعمار مؤلفي الروايات في العالم العربي فقط، الكثير من الروائيين بدأوا في أعمار مبكرة، فلا يوجد أي أساس لصحة هذه النظرية أبدا. ربما كانت التجربة العميقة عاملا داعما ومساندا لكتابة الرواية، ولكنها لا تكون شرطا أبدا.
على ذكر أحلام يلاحظ تأثرك بلغتها الشعرية، وأيضا الاستعراض الثقافي. برأيك هل الاستشهاد بأقوال المشاهير يقوي العمل الأدبي أم يأتي على حسابه؟
أحلام مستغانمي روائية كبيرة وناجحة، ولغتها جميلة من دون إنكار. وأنا أعتقد أنها كانت عنصرا مهما في طابور القامات الأدبية التي تأثرت بها، وتشكلت من خلالها ذائقتي ووعيي الكتابي بشكل كبير. لهذا لا يجب أن أبالغ في إنكار أثر لغتها على لغتي، ولا يجب – للأمانة – أن ننكر الآثار الأخرى الأكبر لكتاب آخرين، مثل نزار ومعلوف والطاهر بن جلون وكثيرون ممن مرت عليهم عربات قراءاتي وتوقفت عندها طويلا. التأثر كما سبق وذكرت عادة صحية ليست سيئة حتى ينكرها الكتاب وينفوها عن أنفسهم، والمبدع الحقيقي هو الذي يتأثر جيدا دلالة دقة وعيه والتقاطه ثم يخلق لنفسه بصمته المميزة بهدوء.
لا أتفق معك في كون أحلام تستعرض ثقافتها. إن زرع المعلومة في جسد النص الأدبي لا يجب تأويلها على أنها استعراض بل أداة يجتهد الكاتب في دعم النص بها، وقارئ ما قد يراها استعراضا بينما يجدها قارئ آخر موطن فتنة واكتمال في النص، لذلك هو ـ وكما أسلفت ـ أداة شأنها شأن الأدوات الأخرى، يجتهد كل كاتب في تقدير حاجة النص إليها، ويختلف أثرها من قارئ إلى آخر.
يتنقل محمد حسن علوان بين الشعر والقصة القصيرة والرواية… هذا التنقل بين الأنواع الأدبية ألا يسبب إرباكا للكاتب؟
أفعل ذلك بكل هدوء من دون أن أقع في أي ارتباك، أنا أمارس هذه الأجناس الأدبية لأني أحبها، وأجد عندي ما أضعه في قوالبها دائما، ولكني أعترف أني أهتم بالرواية أكثر كمشروع، ولا أدري أي هذه الأجناس الثلاثة سيبقى معي حتى النهاية، وأيها قد يتنازل عني أو أتنازل عنه، وأي جنس آخر من الآداب أو الفنون قد يأتي متأخرا. المهم أني لا أقنن تعاملي مع أي منها، وأمارس الكتابة بشكل حر ومفتوح عليها جميعا.