الحب والموت محاور أساسية في حياتي
حوار/ عادل مثنى خلف
التأمل والتبصر في شؤون الحياة يجعل الحقيقة دائماً قريبة من درفة القلب. ومساءلة المجتمع من خلال أسئلة وجودية تفتح خلاياه من أجل الوصول إلى معادلة سليمة دون الزج به في متاهات فكرية وأيديولوجية لا تمثل الكينونة الأساسية للإنسان.
محمد حسن علوان فك بمشرطه أوردة المجتمع. غطس برواياته إلى أعماقه السحيقة ليضع لنا أدباً يتناول الحب والموت والحياة، ويهدم الجدار الذي يفصله عن القارئ فراح الآخر يهرع صوبه كما جلجامش يبحث عن عشبة التفرد. هكذا جاءت رواياته محاولة لفتح صمام الذائقة داخل حجرة الإنسان الواعي من خلال جعل المسافة بين المعقول واللامعقول ملغية من نزلاء شعبه الأول، في محاولة جادة للأخذ بيد القارئ إلى الحقيقة الأزلية لمعاناته الحياتية.
سيميائية القارئ اليوم ممزوجة بالشغف المتزاحم بصدره وهو يقرأ الروائي والشاعر محمد حسن علوان. كيف تراك اقتربت من قٌراءك لحد الالتصاق؟
شكراً لأنك تراني كذلك. أن أكون – من خلال كتابتي – على صلة وثيقة بقارئ هو هدف مسبق يشغل ذهني كلما كتبت، ووسيلتي إلى ذلك هو أن أكون صادقاً في كتابتي قدر المستطاع. للقارئ قدرة بالغة على تلمس ملامح الصدق في أوراق الرواية، وللصدق أيضاً قدرة على تحفيز الكاتب على الاستفاضة في بوحه وإخلاص النية في وصفه. إنها معادلة مباركة أتمنى أن أتمكن منها.
يقول جلجامش ((أماه لماذا وهبتِ ابنكِ هذه الروح القلقة))، سقف الكفاية هي نص مشابه لهذه المقولة تماماً. لمن كنت تريد أن توصل ألم فقدان (ناصر) لحبيبته في الرواية؟
لأناس كثر: أولئك الذين يظنون أن فجيعة الحب انتقت قلوبهم دون غيرها، ليعلموا أن في العالم عشاقاً موجوعين ربما يصادفونهم في الطرقات ويمازحونهم في غرف الانتظار دون أن يعرفوا ما يختلج في قلوبهم. وأيضاً، لأولئك الذين لا يرونها فجيعة تستحق الانتباه الاجتماعي بقدر ما هي حزمة من المشاعر الميلودرامية، فيستخدمون قصص الحب في التراث للتندّر ثم يستكثرون توجيه مجتمعاتهم نحو مساحة أكثر رحابة من أجل الحب الآمن الجميل.
الولوج إلى أعماق النص الروائي يتطلب ركيزة ذاتيه عالية وليس مهارة نقدية. هل تأثرت بالنقد لدرجة انه زاحمك أثناء الكتابة، أم أن النص يخلق نفسه وفق نظرية الفن للفن؟
ما أعرفه عن النقد ونظرياته أقل من أن يفتح لي وحده باب الكتابة. أعتقد أن افتراضك الثاني أقرب إليّ. فأنا كاتب للنص ومكتوبٌ من خلاله، كما أني لا أؤمن بالرسائل المباشرة للكتابة، وأعتقد أن فيها تحجيم وقولبة لا يليقان بها. ولو كان ذلك ممكناً لانتهت الإنسانية إلى نوعين أو أكثر من الكتابة لا غير. إذا قولبنا الكتابة صار بوسعنا التنبؤ بمسارها ومنتهاها، وهذا يجعلها حرفة ميكانيكية، ويطفئ فيها جذوة الإبداع التي تجذب إليها كتاباً وقراء جدد كل جيل.
((لو جاء الحب كما نريد تماماً، لتغير شكل الارض)) هل النص العاطفي أحياناً يكون محرك للأحداث داخل الرواية، أم أن الكتابة تكون ملائمة بقالبها اللغوي حسب مفهوم الشخصية للإطار الذي وضعت فيه؟
إذا فهمت سؤالك جيداً فأظن أن محركات الأحداث في الرواية هي المتعة والتشويق والقيمة الفنية.. سواء جاءت من النص العاطفي أو غيره. اختيار اللغة والتقنية هي رهان الكاتب على تقديم فكرته في سياق مناسب.
الحب والموت هما القاسم المشترك بين سقف الكفاية وصوفيا وطوق الطهارة، هل هي آلية النص، أم خوف الكاتب من أسئلة الوجود المحيرة؟
لا أعتقد أنها آلية. ربما أنها محاولة لمساءلة هذه القوانين الوجودية الكبيرة ومحاولة تحريكها على سطح رواية. الحب والموت محاور أساسية في حياتي، فقد نشأت يتيماً وشببتُ عاشقاً. لا أستطيع أن أنسى روح أبي التي أظلتني سبع سنواتٍ فقط من عمري قبل أن يرحل ولا أستطيع أن أدبّ على الحياة دون عشق مكين يدبر شؤوني. حتى الآن – رغم أن رواياتي الثلاث الأولى تدور حول هذه المحاور – لا أظنني فرغت منها. يوجد حبٌ كثير في العالم ويوجد موتٌ يوميٌّ أيضاً. رواياتٌ كثيرة يمكن أن تكتب في هذه البرازخ العملاقة.
ما هو الفرق بين محمد، الإنسان والشاعر والروائي؟
هو الشخص نفسه، وإن لم يكن.. فستكون تلك أكبر خديعة تعرضت لها في حياتي!
كمفكر هل الثورات العربية الحديثة تخدم النص الروائي، أم هي مغالطة ستؤخر وصول الرواية للقارئ المشغول بقوميته على سبيل المثال؟
إذا أدّت الثورات إلى مساءلة السائد وتحريك الثابت وفتح آفاق الحرية.. فبالتأكيد أنها ستؤثر في مسارات الرواية العربية لأن الرواية تستمدّ حضورها من مثل هذا الحراك الإنساني والمجتمعي. كل الروايات العالمية المجيدة يوجد في ثناياها – الضمنية أو الجليّة – نزعة للمساءلة والتحريك والحرية. الروايات ثورات بطيئة ومسالمة ودؤوبة لها مسارها الخاص في صيرورة المجتمعات الإنسانية.
((إذا قال لك احد من سادتي النقاد.. إنك لست روائيا موهوباً.. فاطلب منه ألا يتدخل في ما لا يعنيه)) هذا ما قاله غازي القصيبي عن سقف الكفاية، هل مازلت متأثر بقوله، أم المطالبة بالتجديد تتطلب منك الرضوخ لبعض مبررات النقد؟
لا أعتقد أنه – رحمه الله – كان يقصد من مقولته تلك تجاهل النقد تماماً، فالمقولة جاءت أصلاً في سياق مقالة جاء فيها الكثير من النقد للرواية. أعتقد أنه أراد بأبويّة أن يحميني من أي أذى مستقبلي قد يسببه لي النقد ويقعد همتي عن الكتابة. كنت في الثالثة والعشرين من عمري عندما نُشرت روايتي الأولى (سقف الكفاية) وكتب عنها القصيبي مقالته تلك. عمري حينها ومكانته هو سوّغا لمثل هذه النصيحة غير المباشرة التي جاءت في سياق إطراء طيّب. النقد بالنسبة لي ضرورة لا أستغني عنها، ولكني لا أقصره على مستويات معينة ذات معايير علمية.. بل أقبله حتى في السياقات الانطباعية البسيطة والمباشرة. كل من يطرح رأياً حول روايتي أقرأه بعين الاحترام قبل عين الاهتمام، سواءً كان رأياً عابراً في موقع الكتروني أو مقالة رصينة في مجلة أدبية.
ثيمة الفقدان التي تشتغل عليها، هي المحرك الأساس للأحداث. لهذا نجد ناصر في سقف الكفاية، ومعتز في صوفيا، وحسان في طوق الطهارة، مؤشرات للخسارات العاطفية، هل يكتب محمد حسن علوان نصوصه للمحزونين، لهذا تكون مجبولة بالفقدان؟
حدثتك من قبل أن فقدي لوالدي وأنا صغير ترك أثراً مباشراً لهذه الخسارة. أنا أكره أن أخسر البشر والأشياء والمدن والمقتنيات.. لكني أدرك أيضاً أن ليس بوسعي أن أستبقي كل شيء إلى الأبد. هذه المعضلة تزرع بذوراً سخية للكتابة. لماذا نعشق ما نفقد ونفقد ما نعشق؟ هل يمكن أن توقف الرواية أسلوبنا الفطريّ أو تستمر في تبريره لتخفيف آلامنا؟ أحياناً، تكون المتاهة كبيرة جداً حد أن خريطة الخروج منها تكون بحجم رواية كاملة!
البؤرة السوداوية لرواية صوفيا، حملت النص في قالب، جنح به للتعسف من هول فكرة الموت، ومحاولة الرضوخ له رغم احتجاج بطل الرواية معتز على موت حبيبته هكذا دون مبرر، هل كانت هي حوار عشاق، ام طرح مسألة فلسفة الموت والحياة من وجهة نظر إسلامية ومسيحية؟
الحب والموت دائرتان كبيرتان تحتلان مساحة واسعة من حياة الإنسان، وعندما تتقاطع هاتان الدئرتان تكون مساحة تقاطعهما مليئة بالأسئلة الوحشية والثبور البطيء. صوفيا كانت محاولة لاقتحام هذه المساحة باستخدام كل الفلسفات الممكنة. إنها مساحة صعبة فعلاً والرواية قصيرة. يوجد كينونات كبرى لا يزحزحها سوى زوايا مستحيلة من الرؤية وصدمات قاتلة من الشك.
هل يمكن للرواية أن تحمل افكار سياسية تحت مسميات اخرى تساعد على الطرح، مثلاً أن تكون الحبيبة يمينية والحبيب يساري وبينهما تصبح مسئلة الطرح مبررة للخوض في مضمار السياسة؟
السياسة ممارسة لصيقة بالوجود الإنساني وبالتالي لا يمكن إقصاؤها من موضوعات الرواية. الأمر يتعلق بكيفية التناول والهدف منه. الرواية التي تتحول إلى خطاب أيديولوجي غالباً ما تكون ممجوجة لأنها تتحايل على وعي القارئ. ولكن الرواية التي تحاول أنسنة السياسية أقرب إلى الفن من تلك التي تحاول تسييس الإنسانية.
رواية طوق الطهارة، ماهو التأثير المتبادل بين التحرش الجنسي الذي تعرض له حسان وهو شاب صغير وبين التكوين النفسي له عندما خاض اول تجربة تفاعل مع المرأة؟
ذلك مذكور في الرواية، وهو – بطبيعة الحال – مذكور على لسان الشخصية وفي إطار وعيها بالموضوع، وليس كحقيقة علمية موثقة. التحرش الجنسي في الطفولة هو حدث محوريّ في مصير أي إنسان وأعتقد أن تناوله روائياً في سياق سيكولوجي مبسّط هو مجال واسع للكتابة وذو أهمية بالغة.
هل اللغة أم الموضوع هي من فرضت رواياتك، على الواقع الثقافي السعودي و العربي بشكل لافت للنظر؟
لا أعتقد أن رواياتي فرضت نفسها على الواقع السعودي فضلاً عن العربي.. ولكن شكراً لأنك تراها كذلك. رواياتي هي مشاركة مني مع الآخرين في تفسير هذا الواقع ومساءلته. أدواتي في ذلك فنية ولغوية وفكرية حسب مستوى تمكّني المتواضع من كل منها. وفي الحقيقة، لا أحب أن (تفرض) الرواية نفسها على أي أحد فضلاً على مجتمعات بأكملها. ما أتمناه هي أن تلعب الرواية دورها المناسب المستحق في هذه الميادين.. لا أكثر ولا أقل.
أول كتاب أدبي جيد قرأه محمد حسن علوان، وكيف كان له اثر في جذبه نحو الخوض في مجال الأدب؟
دائماً ما أقول أن حصر انطلاقة الكاتب في كتاب ما أو كاتب ما هو اختزال للمكونات المتعددة التي تسهم في صياغة شخصياتنا ككتاب. الرسام لا يرسم لأنه شاهد لوحة واحدة وانطلق منها بل لأن عينيه التقطت آلاف الصور في حياته حتى ضجت بها نفسه الشفيفة فقرر أن يعيد صياغتها ويبعثها إلى العالم مرة أخرى من خلاله. قد أخبرك عن كتاب أعجبني ولكني لا أستطيع أن أجزم أنه السبب في انخراطي في الكتابة.
ما هي الشيفرة الأساسية بين اختصاصك في إدارة الأعمال وبين الشعر والرواية من وجهة نظرك؟
اختصاصي العملي والأكاديمي هو محطة للرزق وميل للمهنة، أما الكتابة (شعراً ورواية) فهو احتياج حادّ ليس بوسعي تجاهله أو تجاوزه.
الخوف من الطرح أحياناً يقتل الكثير من الافكار الجميلة. هل الطرح الجرئ يعدّ مبرراً كافياً للاصطدام مع القارئ ليكتشف كنه الحقيقة، أم عدم الخوض به يساعد النص بالانتشار بعيد عن الرقيب؟
الجرأة أداة فكرية وفنية نلجأ إليها عند الحاجة. لا يخفى عليك أن (الجرأة) في سياقات الكتابة تم توريطها في الجدل الثقافي بمجتمعاتنا لأسباب لا علاقة لها بالكتابة بقدر ما لها علاقة بما هو خارج الكتابة من إطار الثقافة العام. ككاتب، لا أنشغل مطلقاً بمسألة الجرأة سوى في حدودها الفنية. بمعنى أني أطرح على نفسي وأنا أكتب أسئلة واضحة ومباشرة: هل ثمة تبرير فني مقنع لي ككاتب لبلوغ هذا الحد من الجرأة في طرح هذه فكرة الروائية أم لا؟ وبناءً على الإجابة أكتب، وليس بناءً على أي جدل يدور خارج صومعتي الكتابية.
احيانا نحتاج الى الفاشية لا كفكرة همجية تؤسس للهدم ولكن للاندفاع الى طموح مشروع في زمن شائك وبالغ الدمار. ماهي رؤيتك لهذه الفكرة؟
من الشائك جداً الزجّ بعبارة ملغّمة أيدلوجياً وتاريخياً في حوار مع كاتب. في حالات معينة من اليأس نظنّ أن الهدم هو الطريقة الوحيدة للإصلاح، ولكن هناك الكثير من الحلول الممكنة أقل تدميراً من ذلك ولكن عين البؤس السياسي والخذلان الاجتماعي والجمود الثقافي تمنعنا من رؤيتها.
محمد حسن علوان، الشكر للغرباء فقط، ونحن يجمعنا رابط الحبر. ماذا تقول وخطانا تعدو صوب المغيب؟
أقول: بما أن هذا الحوار معدٌّ للنشر في العراق أن في صدري حمامة تتوق لسماء العراق.. ولم يأن لها أن تحلق فيها بعد. أشعر نحو العراق بحنين غريب، لأن الحنين يليق بمن زار المكان ثم فارقه.. وأنا لم أزر العراق إلا من خلال ذاكرة أدبائه وتاريخه، ولكني أحنّ إليه كأبنائه. لم أكتب من قبل قصيدة لبلد إلا للعراق، وكتبتها صبيحة ابتداء القصف الأممي عليها عام 2003، وهي منشورة بموقعي تحت عنوان: بغداد.