بين (طوق الطهارة) و(غشاء البكارة) مزحة أخرى.. الروائي محمد حسن علوان:
أعرف الفرق بين (التوبيخ النقدي).. والرأي الفني
جريدة شمس
حوار/ سليمان الأسعد
(لم تكوني أنت امرأة عادية حتى يكون حبي لك عاديا)، بهذه الجملة ((اللاعادية)) استهلّ الروائي الشاب محمد حسن علوان مشروعه الأدبي بروايته الأولى (سقف الكفاية) التي كانت أطول رسالة حب كما سميت في حينها، ثم (صوفيا) التي كانت مساءلة فلسفية ووجودية للموت والحب، وانتهاء بـ (طوق الطهارة) التي انقسمت حول جدارتها الفنية والروائية آراء النقاد وانطباعات القراء الذين تسامى (سقف كفايتهم) عالياً جداً بحيث أصبحوا يترقبون في كل نص وليد ينجبه علوان أن يشبه مولوده الأول (سقف الكفاية)!
لكن هؤلاء المنقسمين لابد أنهم متفقون على جمالية السرد وكثافة اللغة في نصوص علوان جميعها، فأدواته البلاغية تكفي أن تمنحه شرعية التحرك في مساحة كان الروائيون (الحكائيون) يحتكرونها لأنفسهم قبل أن تؤسس أحلام مستغانمي الأرضية الملائمة للرواية/القصيدة التي برع فيها علوان وجيله المنشق عن تقاليد القص.
وفي هذا الحوار، يجيب علوان عن بعض الأسئلة الشائكة التي ينتظر قراؤه إجاباتها ما دامت أعماله تطرح الأسئلة ولا تجيب:
إلى أي مدى تمكنت بتلاعبك اللغوي والسردي من ستر ”فضائحك“ في تلافيف رواية؟!
لم أتلاعب باللغة لأن التلاعب بها ليس سهلاً أمام قارئ حاذق. كل ما فعلته أني لجأتُ إليها لجوءاً كاملاً لتعينني على فجاجة الحقيقة. اللغة ساعدتني على الكشف أكثر من الستر. وأنا، كالكثير من الناس، في حاجة ماسّة إلى الكلام الذي يوصلني إلى الآخر دون أن يفقد الاتجاه.
شخصيات (طوق الطهارة) بعيدة قليلاً عن الواقع السعودي ولا تمثل المجتمع.. وهي لا تشبه القارئ الذي يبحث في النص عن مرآة لحاله. ألم يكن ضمن مشروعك الروائي أن ترصد التحولات الواقعية التي يعيشها المجتمع بدل اقتراح حالات نادرة وشديدة الخصوصية؟
(الرصد) ليس مهمة الروائي بل هو من وظائف علماء السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. كثيرون يعتقدون أن الرواية ليست إلا دراسة اجتماعية مصاغة بشكل درامي فحسب، ويحصرون الرواية في مجال ضيق وغير فني بوصفها (مرآة للمجتمع) و(تنتقد ممارسات اجتماعية…الخ). بينما الرواية، مثل كل الفنون الأخرى، لا يفترض بها أن تلعب غير دورها الفني الموجه لذائقة الإنسان وروحه وفكره ووعيه. هل تفترض من اللوحة التشكيلية أن (ترصد التحولات الواقعية) فقط؟ وهل نتوقع أن تكون المقطوعة الأوبرالية (مرآة المجتمع)؟ الشكل الكتابي للرواية لا يحمّلها مهاماً إضافية غير ما تتحمله الفنون الأخرى، ولكنه يحمّلها رسائل مختلفة للوعي الإنساني العام والذائقة المطلقة.
القارئ الذي يبحث عن مرآة حاله في النص لا يبحث عن صورة منعكسة مباشرة، ونظرية تلقّي الفنون عموماً تحيلك إلى إجابات حول ما يبحث عن القارئ من الرواية أوسع بكثير من مجرد النظر في مرآة روائية. الكثير من الروايات المتماهية في جودتها الفنية وانحيازها للفن تناولت حالات غير واقعية أبداً وأكثر ندرة مما قد ينجبه أي مجتمع إنساني في أي عصر كان. والأمثلة كثيرة جداً.
يبدو أنك حبست أنفاس القارئ في معظم الرواية (أعني طوق الطهارة) وحجبت عنه الأحداث المهمة حتى تصبها دفعة واحدة في الفصلين الأخيرين.. هل كان هذا متعمّداً على سبيل التشويق أم أنك فوجئت بعد مائتي صفحة أن عليك أن تنهي العمل سريعاً قبل أن يتحول إلى ملحمة طويلة كما هي حال (سقف الكفاية)؟
اجتهدتُ لتخرج الرواية بالشكل الذي يبلور فكرتي ويمتع قارئها ويمتثل لروح الفن قدر المستطاع. لكل قارئ ذائقة مميزة، ومن المتوقع جداً أن يضع القارئ افتراضاته السلبية حول العمل مثل (تعمد التشويق، بطء الأحداث،… الخ). في نهاية المطاف الكتابة محض محاولة وأنا أحاول.
أبطالك في الغالب مهووسون بالحب خصوصاً في (سقف الكفاية) و(طوق الطهارة)، لكنهم في الحقيقة يقدسون الحب لا الحبيبة.. فهم قادرون على الشفاء لكنهم يبجّلون حزنهم ويحبون أن يعيشوا تعاستهم. إلى أي درجة يقترب هذا التحليل من واقع شخوصك؟
الروايات استغرَقَت في الحديث عن الشخوص بما لا يدع مجالاً للكاتب أن يضيف عليها بعد نشرها. وشخوص الرواية، مثل كل مكوناتها الأخرى، هي رهن ذائقة القارئ وقناعته وقبوله ورفضه، وبالتالي لا يمكن أن نخرج بتحليل واحد. بعض القراء وجدوا شخصية (ناصر) في سقف الكفاية مثالية ومعتدلة بينما اعتبرها قراء آخرون شخصية مختلة وتعاني من مشكلات نفسية بالغة. تحليلات متناقضة كهذه تصلني باستمرار من القراء عن نفس الشخصية، وهي تحليلات مثيرة للاهتمام وتحرض على التأمل والتفكير. ولكني في الغالب لا أفضل أن أضيف إلى الشخصية بعدما كتبتها فعلاً ونشرت الرواية. ما بعد نشر الرواية هو وقت القارئ وليس وقتي.
… بينما بطل (صوفيا) كان قلقاً وحائراً أمام أسئلة وجودية شائكة. كيف تقيّم تأثير الفلسفة الوجودية الجديدة عليك في هذا العمل؟
صوفيا كانت نافذة لأسئلة فلسفية كبرى حول الموت والحب. الأسئلة طُرحت ولكن الإجابات لا يمكن أن يختصرها حدثٌ أو حكاية. التساؤل الدائم من صفات الرواية قديماً وحديثاً، وهي ممارسة مشتركة بين الكاتب والقارئ. كتابة الرواية التي تتمحور حول فلسفات وجودية كبرى صدّعت الإنسان منذ الأزل يشبه الدخول الطوعي في متاهة هائلة، ولهذا تصبح كل طقوس الكتابة غارقة في الحيرة ومحاولات طرق الأبواب الموصدة أمام الوعي الإنساني المتوتر.
ألا يثير استياءك أن كثيراً من الآراء النقدية تحاول أن تسمي أعمالك كل شيء إلا أن تكون رواية، فـ (سقف الكفاية) كانت ((أطول رسالة حب))، و(طوق الطهارة) عدّها أحد النقاد مقالات ذاتية ووجدانية بتقنية سردية ضعيفة… ووصفتها أخرى بـ ((دفتر مذكرات خاص))؟.
لا يمكن أن يصل الأمر إلى حد الاستياء أبداً. على العكس، أمنُّ لهم اثنتين: أنهم قرأوا الروايات أولاً، ثم أنهم اقتطعوا من وقتهم ليكتبوا عنها ويصفوها بصفة ما أياً كانت. من البساطة التفريق بين الرأي النقدي الذي يتعمد الإساءة لشخص الكاتب وجرح كبريائه الكتابي عن طريق توبيخ روايته نقدياً، وبين الرأي النقدي الحاد الذي وإن جاء سلبياً وغير متفق مع مستوى الرواية فإنه يظل فنياً وموجهاً للرواية نفسها متجاهلاً من كتبها ولماذا كتبها.
علي أن أسألك عن انشغالك المسرف باللغة الذي يجني على عناصر الرواية في أعمالك. فهذا ما يقوله النقاد للتعريض بقدرتك الروائية.. (طوق الطهارة) مثلاً كانت تعاني من عيوب تقنية في الحبكة والسرد.
الإسراف في اللغة وعيوب الحبكة والسرد وغيرها كلها شؤون ذوقية يختلف فيها قارئ عن آخر. شخصياً، تصلني دائماً ردود أفعال فنية تتناقض في رؤيتها للعمل تماماً. وما يراه أحدهم ميزة تراه الأخرى عيباً. لا يوجد عندي تعويذة فنية تجعل الجميع راضين عما أكتبه ولذلك فأنا لا أراقب القارئ غالباً، ليس تهميشاً لدوره، ولكني أؤمن أني عندما أكتب بالطريقة التي أشعر أنه ينبغي الكتابة بها فإن عفوية هذه الكتابة وصدقها ستجد قارئها حتماً.
محمود درويش شاعر مولعٌ بالمجاز والأناقة اللغوية، لكنه لا يميل إلى اللارواية التي تكتبها أنت ويعدها ثرثرة لغوية.. ألا تعتقد أنك ستذهب باللغة إلى أقصى إمكاناتها ثم تقع في تكرار رتيب لأنك لا تستند إلى أرضية روائية متينة
الوقوع في التكرار سيناريو محتمل لا أنفي إمكانية تحققه مثلما لا يمكنني أن أنفي إمكانية وقوعي في أي أخطاء فنية أخرى. فأنا لا أملك الكمال الكتابي الذي يريني الخطأ خطأً ويرزقني اجتنابه!
من أين استوحيت شخصية الخطاط في قصتك البديعة (ن) التي أثريتها بتفاصيل مدهشة عن عالم الخط العربي/الفارسي؟ وكيف استقيت هذه المعلومات؟
إلى أمد قريب كنتُ مولعاً بالخط العربي وأمارسه كهواية يومية، ولكني لم أبلغ حد الإجادة ولم أصرف له اهتماماً كافياً. توقفت جهودي لتعلمه وممارستي له منذ سنوات وما زلتُ أؤنب نفسي على ذلك. ومن ذلك الولع القديم جلبتُ كل التفاصيل التي في القصة. أشكرك على إطرائك تفاصيلها.
علي أن أعترف أن (حنيف من جلاسكو) مبكيةٌ وحارقة! فالقارئ يبلغ ذروة التأثر في مشهد البوح بين (حنيف) والخادمة المغربية. طرقتَ في هذه القصة الدافئة باباً لم ينتبه أحدٌ من قبل إلى حميميته حين جعلت سائقاً باكستانياً محور اهتمام أحدٍ ما… فهذه الشخصيات تكون عادة مهملة بدافع كبرياء مزيّف لدينا، أو محتقرةً لأسباب عنصرية، أو كاريكاتيريةً كما يحلو لبعضنا أن يسخر أحياناً.. ما الذي أراد (حنيف) أن يقوله لنا بعد رحيله؟
أعتقد أنه أراد أن يقول ما قاله لمحمد، بطل القصة، بلغته المكسرة. شيء من الاشتياق والامتنان والرغبة في إبقاء الرابط الإنساني الذي عمره عقدان منعقداً بينهما. الكتابة عن حنيف، في قصة قصيرة، كانت صعبة لأنها تحاول اختصار عشرين سنة من التعالق الإنساني في مساحة سردية محدودة، ولكني رغم ذلك وجدتُ القصة أقدر على التقاط الإشارات الإنسانية من الرواية التي ربما يبهت ضوء الكلام في ممرها الطويل.
يلجأ أنصاف الموهوبين عادةً إلى المس بالمقدسات لتحقيق الشهرة من خلال إثارة الشعور العام.. وما دمت تمتلك الموهبة ومقومات النجاح، ما الذي يدفعك إلى التجديف بالذات الإلهية مثلاً؟
بعض الشخوص الروائية تأتي في قالب نفسي واجتماعي وفكري يُجري على لسانها ما يعتبره البعض تجديفاً وما أعتبره أنا صدقاً روائياً ومكوِّناً لا يمكن إهماله من مكوِّنات الشخصية وبنائها الدرامي والإنساني. ما يجري على لسان الشخصيات لا علاقة له بأفكار كاتبها والخلط بينهما سيكون وخيماً جداً ويعكس عدم وضوح في الرؤية الفنية وقصور في استيعاب الرواية وماهيتها الفنية. وبالمناسبة، لم تشتهر أي من رواياتي بوصفها مجدّفة وتمسّ المقدّس أبداً، ولا أتمنى لأي منها شهرة (غير فنية) المصدر.
غالباً ما يندم المبدعون على أعمالهم الأولى، لأنهم يكتشفون بعد تراكم الخبرات والمعارف مواضعَ خللٍ في نتاجهم. هل تتوقع أن يخالجك شعور كهذا بعد شوط من الخبرة حين تكتشف أنك تعجّلت في نشر أعمالك؟
ليس إلى حد الندم. بالتأكيد أن الكاتب يتمنى أن تكون كل أعماله على مستوى الإجادة التي يؤمن بها في مرحلته الحالية ولكن هذا غير ممكن. كل رواية مرهونة بوقت كتابتها وظروفها وتراكماتي الفنية ككاتب في ذلك الوقت. (سقف الكفاية) بدأت في كتابتها في الحادية العشرين، ونشرتها في الثالثة والعشرين، والآن أنا في الثلاثين، ولو أعدتُ كتابتها لتغيّرت كثيراً، ربما إلى الأسوأ!
فيما سميته أنت مزحة ثقيلة، كانت (سقف الكفاية) أطول رسالة ”ترقيم“ في العالم كما يلمز محمد العباس.. هل تلقيت مزحة ثقيلة أخرى على (طوق الطهارة)؟ رسالة بلوتوث مثلاً بعد أن تطورت أساليب الترقيم؟!
هناك من قال إن المقصود بالعنوان (طوق الطهارة) هو المرادف الذكوري الفسيولوجي المفترض لـ(غشاء البكارة) لدى الأنثى، وهذا التفسير الذي منح العنوان بعداً فسيولوجياً مثيراً للاهتمام يكاد يكون جاداً، ويكاد يكون مزحة أخرى، لا أعلم!